إردوغان الحالم بما يفوق قدرته

إردوغان... الحالم بما يفوق قدرته

إردوغان... الحالم بما يفوق قدرته

 العرب اليوم -

إردوغان الحالم بما يفوق قدرته

بقلم - نديم قطيش

خبر آخر عن إردوغان والشعر. هذه المرة أثار الرئيس التركي غضب إيران، بعد إلقائه بيت شعر من قصيدة للشاعر الأذربيجاني محمد إبراهيموف، تراها إيران دعوة انفصالية؛ لأنها تتحدث عن أهمية نهر «أرس» للشعب الأذربيجاني، وهو النهر الحدودي بين إيران وأذربيجان.
رفضت إيران ما عدّتها «أطماعاً توسعية» تضمرها أنقرة، وأعلنت «الخارجية» الإيرانية استدعاء السفير التركي وتسليمه مذكرة احتجاج على تصريحات إردوغان «التدخلية وغير المقبولة» في شؤون إيران. وردت تركيا بإعلانها استدعاء السفير الإيراني في أنقرة، بعد ما عدّتها «ادعاءات لا أساس لها» وجهتها طهران بحق إردوغان.
الحقيقة أن الشعر اختلط بتجربة الرئيس التركي السياسية بشكل لافت. العام الماضي ألقى، في سياق واحدة من جولات التحضير للانتخابات البلدية في البلاد، قصيدة شعرية، قرأها قبل 20 عاماً عندما كان رئيساً لبلدية إسطنبول، وتسببت في حبسه.
تقول قصيدة الشاعر التركي القومي، ضياء كوك ألب، التي مهدت لصعوده السياسي بعد السجن ثم تأسيس حزب العدالة والتنمية وتولي رئاسة الحكومة:
«المآذن رماحنا، وقببنا خوذاتنا، والمساجد ثكناتنا، والمؤمنون جنودنا»، وهو ما عدّته السلطات حينها تفريقاً بين الأديان ومعاداة للعلمانية.
ليس من باب الصدفة أن إردوغان يعدّ الشاعر نجيب فاضل قيصاكورك (1904 - 1983) «المعلم» الأعظم أثراً في تكوينه الشخصي والسياسي، ويشاركه في هذا التنويه عدد كبير من قادة الحركة الإسلامية في تركيا المعاصرة. قبل ثلاثة أعوام اختار إردوغان مناسبة تكريمية لشاعره «المعلم» لإلقاء خطاب مشحون بالعاطفة والتهويل اعتراضاً على نقل الرئيس الأميركي دونالد ترمب السفارة الأميركية إلى القدس... «إذا فقدنا القدس، فلن نتمكن من حماية المدينة المنورة، وإذا فقدنا المدينة، فلن نستطيع حماية مكة، وإذا سقطت مكة، فسنفقد الكعبة»؛ قال إردوغان يومها، بلغة تستعير من الشعر تهويماته وتحليقه في فضاء المجاز اللغوي.
ما يلفت في علاقة الرئيس التركي بالشعر تلك العلاقة العكسية التي يقيمها مع اللغة والمجاز. فالشعر كان دوماً ملاذ الاعتراض السياسي في الهامش على المتون التي تحتلها السلطة، وهي ليست حال إردوغان المتربع على عرش تركيا منذ نحو عقدين من الزمن! الشعر هو فضاء الممتنع. فالقصيدة لا تنتصر على المدفع، ولا تملك الطاقة على خلق الوظائف، أو تحسين الاقتصاد، ولا تقترح خطط طوارئ صحية، أو تعدل الدساتير. هي بهذا المعنى مصنع لإنتاج القيم، وغالباً في مواجهة السلطة السياسية وقصور السياسة والسياسيين.
والحال؛ لم تخلُ تجارب الأمم من الشعر السياسي الذي وفر منصة احتجاج تراوحت بين المباشرة والترميز. محمود درويش صار المعادل الشعري للوطن الفلسطيني المفقود، والرافد العاطفي للثورة، والقاموس الوجداني لجغرافيا فلسطين بحراً وهواءً وشجراً وتراباً. في تونس يكاد الشعر يكون بياناً سياسياً متصلاً؛ بل الأدب الذي أنتج أرقى جملة سياسية في تاريخ النضال العربي ضد الظلم مع أبو القاسم الشابي:
«إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بد أن يستجيب القدر
ولا بد لليل أن ينجلي
ولا بد للقيد أن ينكسر
ولأن السياسة هي كل الشعر تقريباً في العراق، خلافاً لبقية الفنون التي أفردت فيها مساحات أرحب للحب والجمال، اتسع الحيز الشعري للجواهري، بعمارته اللغوية التي تحاكي عبقرية المتنبي، كما لأحمد مطر الذي اختار اللغة المباشرة كطلقة مسدس، أو مظفر النواب الذي يقارب القصيدة بذراع ملاكم.
عن هذا يقول أمين الريحاني فيما دوّنه عن رحلته إلى العراق وأصدره في كتابه «ملوك العرب»: «لولا الشعراء في العراق لسئمت السياسيين. ولولا السياسيون لفررت هارباً من الشعراء».
في مصر يقفز إلى الذهن مباشرة اسم أمل دنقل ورائعته الرومانسية «لا تصالح»، ثم أحمد فؤاد نجم الذي تحول إلى «مؤسسة شعرية سياسية» لا يوازيها، ربما، إلا الدمشقي نزار قباني، في القدرة على اختراق الجماهير غير التقليدية للشعر، وجعله مادة للتداول والاستهلاك خارج حدود النخبة.
ولما ضاقت السياسة بالسودانيين الثائرين على حكم البشير أبحروا في أبيات محمد مفتاح الفيتوري الذي اختصر شعبين (ليبيا والسودان) وقارة، وراحوا يتداولونها في الفضاءين الرقمي والساحاتي، منشدين معه:
أمس مر طاغية من هنا
نافخاً بوقه تحت أقواسها
وانتهى حيث مر...
ويحتل عالمياً الثلاثي الفرنسي لويس أراغون، والتشيلي بابلو نيرودا الذي ترشح لرئاسة بلاده، والإسباني الغرناطي المسرحي والشاعر فيديريكو غارثيا لوركا، ذلك الفضاء بين السياسة والشعر، حيث اللغة والمجاز موئل الإنسان الهش.
أعود إلى إردوغان معتذراً عن الإطالة فيما سبق. ماذا يفيد الشعر سياسياً مثله؟
في رده على الرئيس التركي، قال المستشار الخاص لرئيس مجلس الشورى الإيراني للشؤون الدولية، حسين أمير عبد اللهيان، في تدوينة، إن «تصريحات السيد رجب طيب إردوغان مدعاة للاستغراب والتعجب، فأعتقد أن الرئيس التركي نفسه لا يعرف ما قاله».
ما فات عبد اللهيان أن إردوغان على العكس تماماً، يعرف بالضبط المراد من قوله. وهو ككل الطغاة، وإردوغان بات طاغية، يمتلك كل مواصفات الطغيان، يجد في المجاز اللغوي حيزاً لتطويع القيم، ويركب اللغة وسيلةَ نقل وشحن عاطفي، تتجاوز الأعطال والقصور الناتجين عن فقدان القدرة على الفعل. اللغة هي ما يردم به إردوغان تلك الهوة هائلة الاتساع بين حيويته واندفاعه من جهة؛ وعدم قدرته على الإنجاز من جهة ثانية. فمشروعه التوسعي الممتنع بفعل الواقع السياسي وواقع قدراته العسكرية والاقتصادية والتوازنات العالمية، يجد له متنفساً في الشعر. حاجته الماسة للهروب من مشكلات داخلية اقتصادية وصحية وسياسية وحزبية، تلزمه اختراع أوهام خارج حدود بلاده، لا يملك لها أدوات عمل سوى سراب اللغة وفضاء العاطفة.
الشعر بوابته لإعلان الهوية الإسلامية لتركيا التي يريدها. والشعر للاعتراض على السياسة الأميركية التي يمتلك حدوداً ضيقة للاعتراض العملي عليها. والشعر بوابته للتحايل على التعايش الاضطراري بينه وبين إيران، في لحظة خلافه العميق مع كل جواره الجغرافي؛ العربي والأوروبي.
الشعر هنا كناية عن العجز. كأن إردوغان، ولو كان يقيم في المتن السياسي التركي، في هامش العالم. حالم بما يفوق قدرته. طامح فيما يتجاوز ما يمكن الحصول عليه. رومانسي يعيش محنة النوستالجيا...
وما النوستالجيا إلا غواية كاذبة، وما أعذب الشعر إلا أكذبه!

 

arabstoday

GMT 04:32 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

رسائل الرياض

GMT 04:28 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

د. جلال السعيد أيقونة مصرية

GMT 04:22 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

إيران وترمب... حوار أم تصعيد؟

GMT 04:19 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

هل تغتنم إيران الفرصة؟!

GMT 04:17 2024 الأربعاء ,13 تشرين الثاني / نوفمبر

داخل عقل ترمب الجديد

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

إردوغان الحالم بما يفوق قدرته إردوغان الحالم بما يفوق قدرته



إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 13:51 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين
 العرب اليوم - مدينة العلا السعودية كنزاً أثرياً وطبيعياً يجذب السائحين

GMT 06:48 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

دليل لاختيار أقمشة وسائد الأرائك وعددها المناسب وألوانها
 العرب اليوم - دليل لاختيار أقمشة وسائد الأرائك وعددها المناسب وألوانها

GMT 15:16 2024 الإثنين ,16 كانون الأول / ديسمبر

صفارات الإنذار تدوي في تل أبيب أثناء محاكمة نتنياهو

GMT 12:39 2024 الإثنين ,16 كانون الأول / ديسمبر

هل يتحمل كهربا وحده ضياع حلم الأهلى؟!

GMT 07:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 08:34 2024 الإثنين ,16 كانون الأول / ديسمبر

جديد في كل مكان ولا جديد بشأن غزة

GMT 04:35 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إنزال إسرائيلي قرب دمشق استمر 20 دقيقة

GMT 16:56 2024 الإثنين ,16 كانون الأول / ديسمبر

السيتي يعلن وفاة مشجع في ديربي مانشستر

GMT 20:06 2024 الإثنين ,16 كانون الأول / ديسمبر

انتشال 34 جثة من مقبرة جماعية في ريف درعا في سوريا

GMT 10:58 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

ضربة جوية أمريكية تستهدف منشأة تابعة للحوثيين باليمن

GMT 08:20 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات لا تُنسى لنادين نجيم في عام 2024
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab