بقلم: نديم قطيش
لم تكن الصواريخ التي انطلقت من لبنان باتجاه إسرائيل كسابقاتها، لا بكميتها التي وصلت إلى 34 صاروخاً، ولا بالسياق الإقليمي والدولي الذي أتت فيه، والذي يتميز بثلاثة عناصر رئيسية:
1- اتفاق إيراني سعودي برعاية الصين كسرت طهران عبره عزلتها، وضمنت خفض التأثيرات الخارجية على أزمتها الداخلية، لا سيما عبر الإعلام السعودي أو الإعلام المرعي سعودياً.
2- أزمة إسرائيلية داخلية جدية تتمحور حول قرار أكثر حكومة يمينية في تاريخ إسرائيل المضي بتعديلات قضائية، أدت إلى انقسام سياسي غير مسبوق طال الجيش هذه المرة.
3- استمرار الحرب الروسية الأوكرانية من دون أي أفق لمخارج سياسية أو تسويات، ما يجبر كل الأطراف في الشرق الأوسط على تجنب الحروب الشاملة؛ لكنه يفتح للاعبين في الإقليم فرص المناوشة، إما لتعديل جزئي في قواعد الاشتباك القائمة، كما تسعى إيران، وإما لتثبيت القواعد القائمة كما تسعى إسرائيل.
لبنانياً؛ حققت ميليشيا «حزب الله» كسباً معنوياً نتيجة الحجم غير المسبوق في الضربة الاستعراضية التي نُفذت، وإن نأت الميليشيا بنفسها عنها، وزاد على ذلك الرد الإسرائيلي الباهت. بدا «حزب الله» متفوقاً في مناورته، وغطى الضجيج الإعلامي والتعبوي على حقيقة أن «حزب الله» ومن الساعات الأولى بعث لإسرائيل برسائل عبر وسطاء دوليين، تفيد بأنه ليس جزءاً من الهجوم، ولم يكن على علم مسبق به، فبقيت الأمور تحت السيطرة.
بيد أن التفاصيل تظهر صورة مختلفة تماماً بعيداً عن استعجال الانتصارات الوهمية. الاستعراض الإيراني عبر صواريخ شبه «لقيطة» من لبنان، فضلاً عن صواريخ غزة، هو جزء من رد انتقامي محسوب من قبل إيران على سلسلة من الضربات المهينة التي تلقتها على يد إسرائيل، سواء داخل حدودها أو في سوريا.
قبل يومين من صواريخ جنوب لبنان، شارك آلاف الإيرانيين في تشييع الضابطين في «الحرس الثوري»، ميلاد حيدري ومقداد مهقاني، اللذين قتلا في غارة إسرائيلية في 31 مارس (آذار) في سوريا. تضاف ذلك إلى سلسلة طويلة جداً من الضربات الإسرائيلية لإيران، شملت اغتيال علماء نوويين إيرانيين، أبرزهم محسن فخري زاده، وهجمات على منشآت نووية، كالهجوم الصاعق بثلاث مُسيَّرات على منشأة عسكرية/ نووية في أصفهان، نهاية شهر يناير (كانون الثاني).
زد على ذلك هجمات إلكترونية وضربات جوية إسرائيلية على منشآت وأصول إيرانية في سوريا، وفضح وتخريب عمليات إيرانية ضد أهداف إسرائيلية ويهودية، أبرزها في تركيا واليونان.
تصعِّد حكومة بنيامين نتنياهو ضرباتها لإيران، ويبدو أنها تستند باستراتيجيتها إلى عدم ترجيح رد إيراني خارج حدود الاستعراض أو المشاغبة، بسبب عزلة إيران الدولية، وحدَّة أزمتها الاقتصادية المستمرة، والنزف الحاصل في شرعية النظام وشعبيته، كما تظهر الاعتراضات الشعبية المتتالية.
وقد لا تكون إسرائيل بعيدة عن الحقيقة في تقييمها للموقف الإيراني. فالملاحظ أن إيران التي لديها صواريخ باليستية بعيدة المدى، لطالما اختبأت خلف صواريخ «حزب الله»، في حين أن «حزب الله» الذي يتبجح بالصواريخ الدقيقة، ها هو يختبئ خلف صواريخ «لقيطة» عديمة التأثير خارج لعبة الدعاية والرسائل والتصعيد المدروس.
بيد أن صحة التقييم الإسرائيلي تظل نسبية، لا سيما أن إيران تبني موقفها وفق منظومة حسابات معاكسة. فإيران تعتقد بصدق، أن إسرائيل في موقف ضعيف عبَّر عنه خامنئي قبل أيام، بقوله إن نهاية إسرائيل قد تحدث أسرع مما سبق له أن توقع هو نفسه عام 2015، حين قدر زوالها بعد 20 أو 25 سنة بالكثير.
فطهران تتصرف على قاعدة أن إسرائيل أسيرة الصراعات العميقة في الداخل، والتي يختصرها عنوان «الإصلاح القضائي»، ولكنها تطول بالفعل هوية إسرائيل وعلاقات مكوناتها بعضها ببعض، كما تطول توازنات النظام السياسي برمته. وتراهن إيران على العلاقة المتوترة بين إسرائيل والولايات المتحدة، لتستنتج أن منظومة حماية إسرائيل معطوبة، وأنها لا تمتلك تالياً القدرة على قرار منفرد بالحرب، مهما ارتفع منسوب التحرش الإيراني بها، لا سيما في ظل الإرهاب الدولي من تبعات الحرب الروسية الأوكرانية، وعدم استعداد المجتمع الدولي للتعامل مع حروب إضافية.
من هنا، ترى إيران فرصة لتحرير نفسها من قواعد الاشتباك غير المتوازنة التي تحكم علاقتها بإسرائيل منذ فترة طويلة، وتُسند لعملائها في لبنان وسوريا مهمة تعديل هذه القواعد بما هو متاح ظرفياً. وفي جانب آخر، تسعى عبر التطبيع مع المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، إلى كسر عزلتها الإقليمية، وتحييد هذه العواصم عما تقوم به من تكتيك عسكري وأمني مغلف بعناوين إسلامية وفلسطينية. فقد اختارت إيران بعناية شديدة، توقيت مشاغبتها على إسرائيل، مستفيدة من التوترات المتعلقة بمناوشات المسجد الأقصى بين الإسرائيليين والفلسطينيين، بشكل يعطل نسبياً قدرة الاعتراض على الأحداث، ويخلط الأوراق بعضها ببعض، فلا يعود مفهوماً أين تتصرف إيران وفق مصلحتها، وأين تنافح عن المقدسات الإسلامية والفلسطينية الحساسة عند الرأي العام الإسلامي.
ولو تعمقنا أكثر، تسعى إيران من خلال حزمة المناورات التي تقوم بها إلى تعطيل «الاتفاق الإبراهيمي» من خلال تأجيج المناخ السياسي بين إسرائيل والعالم الإسلامي، وتبديد ما أمكن من مرتكزات التفاهم وشروط السلام.
إذن، ترى إسرائيل فرصة للضغط على إيران، وترى إيران، في المقابل، فرصة للضغط على إسرائيل. ولكن لا إسرائيل بالقوة التي تظنها، ولا هي ضعيفة بالمقدار الذي تحسبه إيران، وهو ما يخلق مساحة واسعة للحسابات الخاطئة والمتعارضة التي قد تقود الطرفين إلى مواجهة عسكرية غير محسوبة، تزيد من خطر اندلاع حرب شاملة في الشرق الأوسط.