بقلم : نديم قطيش
لا يُختصر خروج تكِر كارلسون، الإعلامي الأكثر مشاهدة في تاريخ التلفزيون الأميركي، من قناة «فوكس نيوز»، بأنه مجرد قصة من قصص الدراما الإعلامية الأميركية، أو حكاية من حكايات خروج أصحاب النعم من جنات الضوء. ولئن تعددت الافتراضات حول أسباب «طرده»، لا يمكن إغفال أن واقعة الطرد الدراماتيكية جاءت بعد تسوية عملاقة بين «فوكس نيوز» وشركة «Dominion Voting Systems»، بقيمة 787.5 مليون دولار، إثر كسب الأخيرة قضية تشهير ضد المحطة، بعد اتهامات من كارلسون لها بتزوير نتائج الانتخاب الإلكتروني عام 2020 وحرمان دونالد ترمب من الرئاسة لصالح جو بايدن.
بهذا المعنى، فإن قصة كارلسون، صاحب التأثير الأكبر بين نجوم وسائل الإعلام المحافظة، هي صورة حية للحرب الأهلية الثقافية والقيمية التي تعيشها الولايات المتحدة راهناً، ولحظة فارقة في مسار الانقسامات العميقة حول مستقبل الهوية الحضارية لأميركا، التي زادت استفحالاً منذ انتخاب ترمب عام 2016، وفشله في تجديد ولايته عام 2020، ومحاولته الحثيثة الآن لكسب سباق عام 2024.
في السنوات الأخيرة، صور كارلسون الصراعات السياسية والثقافية المعاصرة في أميركا على أنها أكثر من مجرد خلافات سياسية، معتبراً إياها معارك مصيرية بين رؤى تختلف جذرياً حول جوهر الإنسانية والجنس والمجتمع والعلاقة مع الدين والله. وبرأيه تعكس الخلافات المحيطة بقضايا مثل الآيديولوجية الجندرية وحقوق المتحولين جنسياً هذا الانقسام العميق حول هوية الإنسان نفسه قبل أن تكون حول هوية المواطن الأميركي. يُحسب له أن طرح هذه المواقف متحرراً من القيود الثقافية الليبرالية التي تعمد إلى التشهير بلا رحمة بمن يعارض ويُسائل مثل هذه العناوين الإشكالية، عبر ما بات يعرف بـ«ثقافة الإلغاء». ويحسب عليه أنه في كثير من الأحيان سقط في إغراء المبالغات، وربما الكذب والترويج لنظريات المؤامرة، في ملفات شديدة الحساسية.
يُرجع كارلسون صلابته في طرح قناعاته المثيرة وحصانته ضد النقد والتشهير، الذي نادراً ما تعرضت لمثله شخصية إعلامية أميركية، إلى تجربة هجران والدته، الفنانة الهيبية، له عندما كان يبلغ من العمر ست سنوات فقط، ما غرس في نفسه شعوراً حاداً بضرورة الاعتماد على الذات وسلحه بمرونة عاطفية حددت فيما بعد شخصيته العامة.
تجدر الإشارة إلى أن الاحتفاء بإسكات كارلسون، مؤقتاً، لم يدفع الأصوات الليبرالية الأميركية، وبعض المحافظة أيضاً، إلى التحذير من مغبة العبث بحرية التعبير وحرية الفكر. على العكس من ذلك، بالغت هذه الأصوات بالاحتفال الفاجر بفرض الرقابة على خطاب تراه مؤذياً للقيم والسياقات الاجتماعية التي قرروا هم سلفاً أنها مقاس واحد يناسب حكماً كل الأميركيين.
ولعل هنا لب المشكلة التي دفعت بالكثير من شخصيات اليمين الوسط الأميركي، والأوروبي، للذهاب بعيداً باتجاه اليمين المتطرف. فانتصار النموذج الليبرالي في التسعينات، بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، فتح الباب أمام توسعة غير مسبوقة أو مضبوطة لتعريفات القيم الديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان، وأزال كل العوائق أمام اقتصاديات السوق فاسحاً المجال أمام موجات تغيير اجتماعية وثقافية واقتصادية هائلة، أدت إلى تهميش ملحوظ لهذه الجماعات، التي تعتنق قيماً مختلفة تجاه الدولة والاقتصاد والمهاجرين والعمل، ما أثار استياءها وخوفها من نسق قيمي موحد يفرض عليها. من هذا الرحم ولدت الحركات اليمينية التي وعدت باستعادة القيم التقليدية وحماية الهوية الوطنية، التي عبرت عنها الترمبية، وكان كارلسون أحد أعلى أصواتها وأكثرهم تأثيراً.
لذلك سارع الليبراليون إلى تصنيف خروج كارلسون من «فوكس نيوز» على أنه تعبير عن أزمة تعتمل في الدوائر المحافظة، لا سيما داخل حركة «MAGA» (لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى)، نتيجة تزامن «طرده» مع توجيه لائحة الاتهام الأخيرة للرئيس السابق دونالد ترمب، وللضربة التي تلقتها مصداقية «فوكس نيوز» بعد تسويتها التي أشرنا إليها، ليخلصوا إلى أن ذلك يؤشر إلى لحظة اختلال في توازن المحافظين.
من وجهة نظري ينم هذا الاستعجال في محاولة إسدال الستار على ظاهرة كارلسون، عن إدراك أصحابه أن الرجل يمتلك ما يكفي من رصيد عند اليمين الأميركي ليعيد تعريف نفسه ويجدد قيادته للحالة السياسية التي مثلها، ما يعني مفاقمة الانقسامات الثقافية والسياسية في أميركا، بعد أن تحول كارلسون إلى ما يشبه «الشهيد الحي» لهذه التجربة السياسية والاجتماعية.
وقد جاء الرد العلني لكارلسون عبر فيديو قصير عبر منصة «تويتر» ليؤكد هذا المسار المرجَح لظاهرته الإعلامية السياسية، بعد أن حصد الفيديو الخاص الذي نشره بالتزامن مع توقيت برنامجه السابق على مشاهدات مليونية فاقت ما حصلت عليه «فوكس نيوز» في الليلة نفسها. في الفيديو انتقد كارلسون أولئك الذين يحاولون «إسكات» أصوات الحقيقة، قائلاً: «الكاذبون الذين يحاولون إسكاتهم يتقلصون، ويضعفون. هذا هو القانون الحديدي للكون: الحقيقة تنتصر».
ويضيف كارلسون في نقد موجه للحزبين: «لقد توصل كل من الحزبين السياسيين ومانحيهم إلى إجماع حول ما يفيدهم، وهم يتواطأون لإغلاق أي محادثة حول هذا الموضوع. فجأة تبدو الولايات المتحدة إلى حد كبير مثل دولة حزب واحد. هذا إدراك محبط». إن مثل هذه المواقف تفسر ترحيب بعض الجمهوريين أيضاً بخروجه من المشهد في لحظة يخوض كل من الحزبين معركة في داخلها لاسترداد القيادة من الأصوات الجديدة كترمب في الحزب الجمهوري، وبيرني ساندرز في الحزب الديمقراطي، والعودة بالحزبين إلى زعامة خط الوسط التي ينتقدها كارلسون باعتبارها مافيا مشتركة تمثل في الواقع حزباً واحداً.
وإذ أعرب كارلسون عن أنه «طالما وجدت أماكن يستطيع فيها الأميركيون سماع أشياء حقيقية فهناك أمل»، تبدو سيطرة شخصية كإيلون ماسك على «تويتر»، لا تقل اشتباكاً مع الليبراليين الأميركيين عن كارلسون، لحظة ملائمة للأخير لتقديم منتج إعلامي جديد يضمن تأثيره السياسي والاجتماعي على أبواب انتخابات رئاسية مصيرية في أميركا، مستفيداً من التغييرات الجارية على هندسة المنصة. فالقضايا التي ناقشها كارلسون بحماس وحده على الهواء لن تختفي مع خروجه من «فوكس نيوز». ويجب ألا تغفل حقيقة بسيطة أنه هو وليد هذه القضايا، ووليد سياقاتها وليست هي من نتاج أدائه الإعلامي أو السياسي.
خروج تكر كارلسون من «فوكس نيوز» لحظة محورية في تاريخ الإعلام الأميركي، ويمثل، على نحو أشمل، لحظة مرتبطة بشكل معقد بالمشهد الاجتماعي والسياسي الأوسع للبلاد. إنه خروج يسلط الضوء على الهوة الآيديولوجية العميقة بين أبناء الأمة الأميركية التي تتصارع على هويتها وسط معايير وقيم ثقافية متغيرة بسرعة، ووسط ضعف متنامٍ وخطير لقدرة نظام الحزبين على اختصار التجربة السياسية الأميركية وتأطير نزاعاتها.