بقلم - إميل أمين
الحديث عن العلاقات العربية الصينية، ليس وليد اليوم، ولا جديد المنشأ، فنحن بصدد وشائج ربطت بين حضارتين كبيرتين عبر التاريخ، وتبادل منافع خلاق عبر دروب الزمن، ورؤى تكلم عنها المؤرخون في كتاباتهم الأولى.
على سبيل المثال، يذكر عالم الفلك والمؤرخ الأندلسي، أبو القاسم حامد الأندلسي، المعروف بابن صاعد، في كتابه الشهير «طبقات الأمم»، أن «الصين أكثر الأمم عدداً، وأفخمها مملكة، وأوسعها داراً، وحظهم من المعرفة التي برزوا فيها عن سائر الأمم، هو إتقان الصنائع العملية، وإحكام المهن التصويرية، فهم أصبر الناس على مغالبة التجديد، وتحسين الصنائع».
سارت القوافل بين بلاد العرب والصين، عبر طريق الحرير القديم، وها هي الأيام تدور، لا ليكرر التاريخ نفسه، بل ليقدم فصلاً جديداً من فصول التواصل الإنساني والتبادل المعرفي والحياتي.
كتبت القمم الصينية الثلاث التي احتضنتها المملكة العربية السعودية، بداية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تاريخاً جديداً أكثر حيوية ومنفعة للجانبين، تلك التي جاءت تحت رعاية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي رأى أنها: «تؤسس لمرحلة تاريخية جديدة مع الصين للتعاون والتنمية، وبداية لمسيرة تهدف لتعميق العلاقات على كافة المجالات، وبهدف تنسيق وجهات النظر حيال القضايا الإقليمية والدولية».
بدت القمم الثلاث في العاصمة السعودية الرياض، خطوة استشرافية في موقعها وموضعها، تجاه الصين القادمة بخطوات واثقة وبقوة، في سماء القطبية الدولية، ولهذا أضحت دول مجلس التعاون الخليجي، وغالبية دول الشرق الأوسط، على درجة عالية من الاهتمام بمد الجسور مع بكين، لا بهدف براغماتي وقتي، وإنما رغبة في بناء علاقات وطيدة ذات طريقين، لتعبيد الدروب القلقة والمضطربة، في عالم يعاني من حالة سيولة جيواستراتيجية، ويعيش مخاوف من انهيارات اقتصادية، ناهيك عن توقعات بمواجهات عسكرية كونية، دون أن يهمل المحلل المدقق والمحقق، التحديات والأزمات العالمية، من أمن غذائي، وأمن الطاقة، وعالم التكنولوجيا المتقدمة، وتنويع مصادر السلاح .
جاء الاتصال الأخير بين الأمير محمد بن سلمان، والرئيس الصيني شي جين بينغ، ليؤكد أهمية العلاقات الاستراتيجية التي تجمع بين المملكة العربية السعودية والصين، وتقديراً لدور بكين في تطوير علاقات حسن الجوار بين الرياض وطهران.
يعكس هذا الحرص السعودي على التواصل رغبة عربية حقيقية، على التعاطي مع الصين بوصفها قوة قطبية قائمة وقادمة، تتسم برغبة حقيقية، وحسب كلمات الرئيس الصيني، في الاستعداد للعمل مع السعودية لبذل جهود شاملة لبناء مجتمع مصير مشترك بين الصين والدول العربية في العصر الجديد، والمساهمة بشكل أكبر في السلام والاستقرار والتنمية في الشرق الأوسط.
رأت الدبلوماسية السعودية، بقيادة خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز، بعين تقدمية، كيف أن الصين باتت تلعب بشكل متزايد دوراً مهماً وبنّاء في الشؤون الإقليمية والدولية، الأمر الذي جعل بكين وقيادتها السياسية محل تقدير كبير من الجانب السعودي في الحال والاستقبال.
وعلى الجانب الآخر، كانت الدبلوماسية الصينية، داعماً لزخم الانفراج بين دول المنطقة، والذي يزداد بشكل واضح في الأوقات الأخيرة، ما أظهر بشكل كامل نصراً حضارياً كونفوشيوسياً، لم ينفك يصر على أن حل التناقضات والخلافات من خلال الحوار والتشاور، يتماشى مع تطلعات الشعوب، وكذا اتجاه العصر ومصالح جميع الدول.
الذين لهم دالة على تاريخ الصين القديم، يدركون قناعاتها التي أشرنا إليها من قبل مرات عدة، حول فكرة الأضداد التي لا يلغي بعضها بعضاً، وإنما تتعايش وتتفاعل معاً، داخل الكل الأنطولوجي.
تعطي الصين نموذجاً رائقاً رقراقاً، حول فلسفة الاحتواء التي تجيدها، وعلى العكس من النموذج الأميركي والأوروبي، أي النموذج الأرسطي الساعي للمواجهة عند الخلاف أو الاختلاف.
خذ، على سبيل المثال، استيعاب الصين للحضارة الإسلامية قبل ألف وأربعمائة عام في بعض مناطقها، وقبلها كان قبول بعض الطبقات الحضارية منها المسيحية، وعاش الجميع معاً طوال مئات السنين في قدرة فريدة على التناغم الخلاق، ورغم عقود الماركسية التي طغت، فإن تلك الرقائق ظلت كامنة، وظهرت مرة أخرى مع انفتاح الصين على العالم من جديد.
من هنا يمكن القطع بأن تعزيز العلاقات العربية الصينية، لا يأتي من باب الغزل أو اللعب على متناقضات بقية القوى الدولية، كما يخيل للبعض القول، وإنما من باب ملء مربعات نفوذ وشراكات، أفرغتها أو أهملتها، مقدرات آخرين، لم يقدروا لتحالفاتهم السابقة أهميتها على خريطة عولمية متحركة ومتغيرة، وفي عالم يعيد البحث عن شكل جديد لتوازناته، سواء من حيث قدرات القوى الناعمة أم الخشنة.
ليس سراً القول إن تعزيز محاور العلاقات العربية الدولية، مع المحور الصيني الصاعد بقوة، أمر سيكون له مردوده الإيجابي من خلال تمكين أوسع للدبلوماسية العربية حول العالم، وبالتالي الحصول على مساهمات فعالة في دعم قضايا العرب، وخصوصاً المصيرية منها.
الذين طالعوا بنود المبادرة الصينية لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، يلفت انتباههم بندان فيها:
الأول: دعوة الصين للتقيد الصارم بالقانون الدولي المعترف به عالمياً، بما في ذلك ميثاق الأمم المتحدة، والتمسك بشكل فعال بسيادة واستقلال الدول ووحدة أراضي كل البلدان.
يعني ذلك أن الصين اليوم تعود بعالمنا المعاصر، إلى دائرة فكر الدولة الويستفالية، من غير عنتريات تجاوزها الزمن.
الثاني: التخلي عن عقلية الحرب الباردة، ما يعني رفض فكرة توسيع التكتلات العسكرية، التي لا تعمل إلا من خلال رؤية نرجسية غير مستنيرة.
في هذا السياق تفتح العلاقات العربية الصينية مجالات واسعة لقدرات عربية من المحيط إلى الخليج، لتكوين شراكات تعاونية واستراتيجية مع الأقطاب الكونية الجديدة، ودون انحسار أو تبعية، لأحد بعينه، ما يعزز أمن العرب واستقرارهم، وترسيخ المزيد من الاستقرار، عطفاً على تحقيق الازدهار والتنمية للكثير من الاقتصادات العربية التي أصيبت من جراء جائحة (كوفيد - 19) تارة، أو تلك التي ألقت عليها الحرب الروسية – الأوكرانية.
هل هو وقت الصين؟
الرئيس الأوكراني زيلينسكي، يدعو الرئيس بينغ لزيارة أوكرانيا... هل ستفعلها بكين وتتسنم القطبية العالمية من أوسع أبوابها؟