بقلم - إميل أمين
على عتبات خريف الغضب الأوروبي، بفعل ثورة الطبيعة تارةً، وغضب القيصر الروسي تارةً أخرى، يعنّ للمرء أن يتساءل: هل قارة التنوير في مأزق، وإن كان ذلك كذلك، فما الذي أدى بها إلى هذا المدار، وأي مستقبل ينتظر شعوبها في المدى المنظور؟
من الواضح أن أزمات أوروبا، سابقة على اندلاع المواجهة الروسية – الأوكرانية، لا سيما بعد أن فقد حلم الاتحاد الأوروبي بريقه، وبدا كأن نجمه يأفل وزيت مصباحه يضمحل.
قبل الدخول في عمق التساؤلات السياسية، وتبعات الأحداث السيارة، ربما يعن للمرء أن يبحث في ملامح ومعالم العطب الفلسفي والاجتماعي الذي أصاب أوروبا، وكيف انحرفت بوصلتها من منطلقات الحرية والمساواة والأخوة، إلى دروب تقديس الذات المنفلتة، عبر حريات مسمومة تحمل في داخلها عوامل فناء لا بقاء.
حاجج الأوروبيون المعاصرون طويلاً بالحق في كرامة الفرد، غير أن المشهد تحول لاحقاً إلى درجة من عبادة الذات، والتطرف في هذا الإطار، الأمر الذي أفرز علمانية ظلامية، والتعبير هنا للفيلسوف الفرنسي اليساري الشهير ريجيس دوبرييه، وقد وردت في كتابه الشهير «الأنوار التي تعمي»، إذ رأى أن العلمانيات المتشددة هي المكافئ الموضوعي للأصوليات الضارة.
هل تأذّت أوروبا من الإغراق في ليبرالية لم تثبت نجاعتها حتى الساعة بشكل مطلق؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك، فالنظرة الأوروبية للجيران الجغرافيين في شرق آسيا، انطلقت من فوقية واضحة، ومن تمايز وتعالٍ غير مقبولين، ومن غير أدنى مقدرة على فك شفرات الطبيعة الاجتماعية للأمة الروسية السلافية على سبيل المثال لا الحصر، وهو ما ترتب عليه الموقف من القيصر بوتين والتبعات المؤلمة التي تعانيها أوروبا مؤخراً.
سراً لا جهراً، وهمساً لا علناً، يتساءل نفر غير قليل من الأوروبيين الثقات عن حساب الأرباح والخسائر من الانجرار الواضح والفاضح وراء الموقف الأميركي تجاه روسيا، وهل كسب الأوروبيون معركة أم خسروا الحرب؟
طوال سنوات إدارة المستشارة الألمانية ميركل لشؤون وشجون ألمانيا، ومن قبلها حكماً سلفها جيرهارد شرودر، كان هناك فكر وتوجه لتعميق التعايش الأوروبي – الآسيوي، وعلى البعد ظل الحلم الآوراسي يشاغب مخيلة الأوروبيين على نحو خاص، ومن هنا انطلق خط «نورد ستريم»، قبل أن تصاب أنابيبه بالجفاف مؤخراً، إن جاز التعبير.
كيف تناسى الأوروبيون مآسي الحرب العالمية الثانية، ومعاركها الضارية والخسائر التي لحقتهم، حتى يضعوا أنفسهم ومن جديد في مواجهة لا فائدة منها، ولا طائل من ورائها.
قطعا يمكن للمرء الجزم بأن أوروبا سقطت في الفخ الأميركي، وبلعت طعم ما أُطلق عليه «القرن الأميركي»، والهادف إلى منع قيام قوى قطبية أخرى مناوئة لها، حتى وإن أدى الأمر إلى وقوع أوروبا ضحية مواجهة مسلحة محتملة مع روسيا – بوتين.
ما الفائدة التي عادت على أوروبا والأوروبيين من السعي وراء الرغبة الأميركية «في الامتداد شرقاً، والنباح عند بوابات روسيا» والتعبير للحبر الروماني البابا فرنسيس، في حديثه لصحيفة «كورييرا ديلا سيرا»؟
حصدت أوروبا حتى الساعة الخيبة، وهو أمر نأسف له، فيما الخوف الأكبر أن يتحول الخريف العاصف إلى شتاء قاتل على جانبين: مادي من ناحية متمثل في تبعات أزمة نقص الطاقة، ومعنوي من جهة مقابلة، حيث هناك ثورات تنتظر الأوروبيين، تحمل في طياتها مشاعر الكراهية والبغض، وتذكيها نعرات القومية وتضرم نارها منطلقات العنصرية.
قبل بضعة أيام، وفي وقت ترتفع فيه أسعار الطاقة في أوروبا بشكل مخيف، كانت روسيا قد بدأت في حرق ما يقدَّر بنحو عشرة ملايين دولار من الغاز الطبيعي يومياً من محطة واحدة، حسبما نقلت صحيفة «التايمز»... ما الذي يعنيه ذلك؟
الجواب واضح وصريح وغير مريح للأوروبيين، فالروس يستخدمون الغاز كسلاح لرفع الأسعار، وإضعاف عزم الاتحاد الأوروبي بشأن العقوبات.
تبدو الحياة على أوائل الشتاء، والذي يتوقع علماء المناخ أن يكون قارساً وقاسياً، تتراوح بين صعبة إلى غير محتملة، لا سيما إذا استمر القصور في الحصول على موارد طاقة جديدة، الأمر الذي سيؤثر حكماً على بقية مناحي الحياة، لا سيما الصناعة والزراعة، ناهيك بوضع الأوروبيين أمام أمرين أحلاهما مر، وحلّان كلاهما أعرج، فإما التدفئة وإما الغذاء.
الكارثة الأخرى التي تجعل من بوصلة أوروبا وعن حق ضائعة، تتضح من خلال التيارات الأوروبية الشعبوية المتطرفة، تلك التي ستعمد إلى إشاعة الفوضى في ربوع الدول الأوروبية، لا سيما ألمانيا والتي تحذر التقارير الاستخبارية الداخلية فيها، من مخططات لانتفاضات عارمة تستغل الأوضاع الاقتصادية الراهنة وتسعى نحو فاشية مرعبة.
قد تتحسّن أوروبا إن راجعت أوراقها، وعملت على تضميد جراحات أوكرانيا، ورد القيصر عن نفسه، من خلال وساطة أوروبية تنويرية إنسانوية بعيدة عن الفوقية الإمبريالية الأميركية التقليدية.