أحد أهم الأسئلة المطروحة على ساحة النقاش الدولي هذه الأيام، موصول بالمشهد الروسي، وهل حقق قيصر الكرملين أغراضه التي كان يسعى إليها، سواء من خلال الحرب أو السلام، وبما يعود بالنفع الكبير والوفير لروسيا التي لا تنفك تصحو من الرماد كما العنقاء؟ وإن كان ذلك كذلك، فأيّة عقيدة توجهه، رغم الضغوطات التي يواجهها، والعقوبات التي يجابهها، على مدى أكثر من عقد، وبالتحديد منذ العام 2014، أي حين قام بضَمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا بوصفها أراضي مستقطعة بطريقة غير قانونيّة في زمن جوزيف ستالين؟

المؤكد أنه لا يمكننا تقديم جواب شافٍ وافٍ عن علامة الاستفهام المتقدمة، من غير أن نتوقف عند حجر الزاوية الذي يشكل فكر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والذي يعتقد بأن بلاده تعرضت لأكبر مؤامرة في التاريخ الحديث، وعنده أن تفكيك الاتحاد السوفيتي، هو خطيئة مميتة وليست عرضية، ينبغي أن يحاسب الغرب عليها حسابًا عسيرًا.

عبر نحو ربع قرن في سُدّة الرئاسة الروسية، عكس بوتين اتجاه السياسات السوفيتية السابقة، بمعنى أنه لم يسعَ وراء الشعارات الزاعقة، ولم يرفع رايات فاقعة، بل ركّزَ جلَّ جهوده على استنقاذ موسكو من أوليجارشية يلتسين وبقايا النظام السابق، ما أعطى روسيا قبلة الحياة أولاً.

أما على الصعيد العسكري، فقد تنبه بوتين للفخ الذي وقع فيه سكرتيرو الحزب الشيوعي السابقين، والمتمثل في سباق التسلح المهلك، والذي أفرغ خزائن البلاد، في منافسة غير متوازنة مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.

عَمَد بوتين إلى الكيف لا الكَمّ، ومن هنا دارت عجلة الإنتاج العسكري، وعبر طائفة من العلماء الروس العسكريين، الذين أبدعوا في صناعة أجيال جديدة من الأسلحة، برًّا وبحرًا وجوًّا، كانت السبب وراء حرص إدارة بايدن على أن لا تمد زيلنسكي بالمزيد من الأسلحة الأميركية المتقدمة الكفيلة بإغضاب القيصر، ومن ثم دفعه لتنفيذ أبجديات عقيدته النووية الأخيرة، ما يعني إدخال العالم في حرب عالمية نووية مهلكة للزرع والضرع.

يبدو النظر إلى بوتين اليوم من منظورين، أحدهما يرى فيه ديكتاتورا لا ينبغي أن يتم تشجيعه على المضي قدمًا في مساره التخريبي، ويصفه البعض بأنه مشعل حرائق، قاتل، مخرّب وجاسوس، وهذه النظرة تنسحب اليوم على الأوروبيين بشكل شبه كامل، لا سيما بعد العملية العسكرية في أوكرانيا والمستمرة إلّا قليلاً منذ ثلاث سنوات.

النظرة الأخرى لبوتين، تقودها عين أميركية، في مقدمها الرئيس ترمب، والذي تُوَجَّه إليه أصابع اتهام بأنه صديق لبوتين، بل ربما حليف مستتر لروسيا، الأمر الذي يدفع الجانب الأوروبي من الناتو إلى الغضب من جهة، والبحث عن طريق مغاير للتحالف العضوي مع الولايات المتحدة من جهة أخرى.

لكل من الطرفين وجهة نظر تستحق الدرس بعناية، ذلك أن الأوروبيين لوجستيًّا هم الخاصرة الرخوة، والحلقة الأضعف، ويعلمون علم اليقين أن جحافل الجيوش الروسية، يمكن أن تكرر تجربة أوكرانيا في العديد من دول أوروبا الشرقية سابقًا، لا سيما دول البلقان.

هذا الطرح ليس تنظيرًا كلاميًّا فحسب، بل حقائق أظهرتها أحداث بعينها، فخلال العام الماضي 2024، حين انتشرت أنباء محاولة ألمانية لقصف جسر القرم بصواريخ متقدمة، تحدث نفرٌ غير قليل من الجنود الروس، عن رغبتهم في العودة إلى برلين مرة أخرى، في إشارة لا تخطئها العين، لتحرير السوفيت ألمانيا من النازية.

أما الأميركيون بقيادة الرئيس ترمب، فتتلخّص وجهة نظرهم في ضرورة وقف هذه الحرب العبثية، ووضع حد لاستنزاف المخزون العسكري للبلاد، والذي يهدر في حرب لا طائل من ورائها طالما أن القيصر لن يهزم عسكريًّا، فمما من دولة نووية يمكنها خسارة حرب بشكل مطلق، عطفًا على الدعم المالي الهائل لأوكرانيا والذي تجاوز الثلاثمائة مليار دولار والعهدة على الرئيس ترمب.

يحاجج البعضُ، لا سيما أصحاب المؤامرة، بأن ترمب عميل روسي، تم تجنيده لصالح السوفييت منذ العام 1987، غير أن هذه روايات هلامية أقرب إلى الخرافية، في حين أن الحقيقة المؤكدة وراء رغبة ترمب في التواصل الجدي مع الروس، تنطلق من فكرة براغماتية هدفها الرئيس قطع الطريق على التحالف الروسي-الصيني، الذي اشتدَّ عُودُه في السنوات الأخيرة وبنوع خاصٍّ في ظلِّ الأزمة الأوكرانية، والعقوبات الأوروبية والأميركية التي تتعرض لها روسيا.

وفي كل الأحوال، يبدو بوتين اليوم وكأنه يحقق بالفعل انتصارات سياسية، وهذا ما يميل إليه أركان إدارة الرئيس ترمب، من عند نائب الرئيس جي دي فانس، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، عطفًا على مستشار الأمن القومي مايك والتز، وجميهم يقطعون بأن شبه جزيرة القرم قضية باتت من الماضي، وغالب الظنِّ أنهم متفقون سرًّا لا جهرًا، على سيادة روسيا للأقاليم الثلاثة التي تم اقتطاعها من أوكرانيا، ناهيك عن رفضهم لفكرة قبول أوكرانيا كعضو في حلف الناتو.

هل أخطأ الغرب في فهم العقلية الروسية القيصرية، وأي فخ ذاك الذي وقعت فيه أوروبا بنوع خاصّ؟

من القصص التاريخية التي تفكّ شفرات النفسية الروسية، تلك الحادثة التي جرت حين حاول نابليون بونابرت غزو روسيا عام 1812، مستعينًا بجيش قوامه 600 ألف جندي.

كان من عادة الفرنسيين أن يضعوا وشمًا على يد أي أسير روسي يقع أثناء المعارك، وفيما يفعلون الأمر البائس مع أحدهم، فوجئوا بأنه استَلَّ فأسه وقطع يده صائحًا "كُلِّي لقيصر"، وساعتها أدرك نابليون المصير الذي ينتظره.

لم يفهم الغرب تلك العقلية بعد دعمهم عملية تفكيك وتفخيخ الاتحاد السوفيتي، وكان عليهم الانتظار لثلاثة عقود للتأكد من أن العنقاء الروسي عاد وبقوة وبما يمكن أن يهدد أمن وأمان أوروبا وأميركا.

وعن أوروبا تحديدًا، فالحديث مُتَّسع عن الخطأ الاستراتيجي الكبير الذي ارتكبته، فالعداء لروسيا اليوم، كان من اليسير تجنبه، عبر رفض الاندفاع الأعم وراء إدارة بايدن الديمقراطية، والتي عمدت إلى إشعال المشهد العسكري مع موسكو.

لا يمكن لأيّ محلل محقق ومدقق في الشأن الدولي، أن ينفي التقارب الروسي الألماني على سبيل المثال، وقد كان كفيلاً جدًّا ببناء عصر أوراسي ذهبي، عوضًا عن تأصيل عوامل الكراهية في نفوس الأجيال الأوروبية والروسية القادمة على حدٍّ سواء.

لعلّ أفضل خطوات النصر البوتيني، قدرته على كبح جماح غضبه، لا سيما بعد أن فتحت المملكة العربية السعودية أبوابها واسعة للمفاوضات الروسية-الأميركية، والتي تعد نصرًا مبينًا لروح السلام ودروبه، حيث الرغبة في الحياة والنماء تتصاعد يومًا تلو الآخر مبشرة بنهاية أوقات الأزمة التي كادت تمسك بتلابيب العالم برُمّته.

هنا يمكن القطع بأن بوتين ليس وحده المنتصر، بل الرئيس ترمب أيضًا، وللمرء أن يتفق أو يفترق عن سيد البيت الأبيض، غير أنه في كل الأحوال كان صادقًا حين تحدث غاضبًا إلى زيلنسكي، عن الحرب العالمية الثالثة، والتي يمكن أن تكون تلك الأزمة السبب الرئيس في اندلاعها.

ثم ماذا؟

يأمل المرء أن تكلل الجهود بنصر سلمي كبير يخرج من لقاءات جدة مبشرًا بهدوء وسلام يعُمّ العالم، عوضًا عن الموت الراكب فرسه الآتي من بعيد.