الزلزال الأوروبي والحضارة الجديدة

الزلزال الأوروبي والحضارة الجديدة

الزلزال الأوروبي والحضارة الجديدة

 العرب اليوم -

الزلزال الأوروبي والحضارة الجديدة

بقلم - إميل أمين

على مَرّ العصور الإنسانية، نشأت الدول والإمبراطوريّات كتفاعل بين البشر والأرض، ضمن منظومات فكريّة وثقافيّة، اقتصاديّة وعسكريّة، بين رؤى أخلاقيّة ومبادئ فلسفية، سلمًا وحربًا، غَيْضًا وفيضًا، ما أسفر عن صعود واضمحلال الحضارات عبر التاريخ.
أحد أهم الأسئلة المطروحة على ساحة النقاش العالمي في العقود الاخيرة: "هل الحضارة الغربية في مرحلة الأفول، في حين تبدو حضارة أخرى آسيوية الطابع، طالعة مشرقة بشكل مُؤكَّد؟
مؤكد أن علامة الاستفهام هذه لها علاقة جذرية بما جرى في القارة الأوروبية خلال الأيام القليلة الماضية، من انتخابات الاتّحاد الأوربي، والتي أسفرت عن تحقق مخاوف أقلقت مضاجع الكثير من الأوروبيين مؤخَّرًا.
انتصر التيار اليميني المتشدِّد والمتطرف، وبات قاب قوسين أو أدنى، لا من السيطرة على برلمان الاتحاد فحسب، بل الإمساك بمواقع القيادة والسيادة في غالبية إن لم تكن كلُّ دول أوروبا عمَّا قريب.
يَعِنّ للقارئ أن يتساءل: "ما هو معنى أقصى اليمين، أو بصيغة أخرى ما الذي يصبغ هذا الحزب أو ذاك بصبغة اليمين الشعبوي المتطرف؟
عند عالم السياسة الهولندي "كاس مود"، والذي ربما يكون أشهر مراقب لليمين المتطرف في أوروبا، إن جوهره يجمع بين العداء للمهاجرين والاستبداد والشعبوية، وهو يعزف على أوتار النزعة القومية، ويميل دومًا إلى إقصاء الآخر، والتفكير عبر صيغة قاتلة تدَّعى ملكية الحقيقة المطلقة.
جاهدت أوروبا طوال ثلاثة قرون تقريبًا، بهدف التخلص من أزمنة التحَجّر والتكَلّس العقدي، والانسداد التاريخي، ونشأت على أراضي هذه القارة رؤى إنسانوية، فكرية وفلسفية، نادت بالحرية والمساواة والإخاء، وعملت على التخلص من أعباء الدوغمائيات التي تحكمت في المفاصل الأوربية بصورة أو بأخرى.
ولدت النزعة الإنسانية رغبة في التثاقف مع الأمم والشعوب المختلفة، ومن عند تلك الجزئية عرفت السياسات الأوروبية معنى ومبنى التعامل مع السياسات المحلية والدولية بصورة نسبية لا بصورة مطلقة، انطلاقًا من أن تعددية المطلق زائفة، أما النسبي فيقبل قسمة الغرماء، أو بمعنى أدق العيش المشترك مع الآخر، المختلف عِرْقيًّا وجنسيًّا، طبقيًّا وعقديًّا.
هل هذه الانتخابات ردّة عن حضارة الغرب الأوروبي التاريخية، وبداية لمسار مضاد لمسارات التنوير، ومساقات التفكير التي دَرَج على السير فيها فلاسفة التنوير الأوروبي، من فولتير وروسو، كانط وهيجل، ديدرو وإسبينوزا، وصولاً إلى قيادات أحزاب البديل من أجل ألمانيا، والتجمّعات الوطنية ذات المسحة اليمينية التي تستدعي خوفًا كبيرًا جدًّا من أن تنساق الشعوب الأوروبية وراءها، ما ينتج في نهاية الحال نماذج سياسية أكثر هولاً من الفاشية والنازية في ثلاثينات القرن المنصرم؟
قبل الجواب، يرتفع صوت من الداخل يحاجج بأن صحوة التيار اليمينيّ، أمر له مسبّباته التاريخية، ما بين عوامل اقتصادية، وأخرى أيديولوجية، ما يعني أن ما جرى هو نوع من أنواع التصحيح الذاتي للمسيرة السياسية الأوروبية.
والشاهد أنه على الرغم من وجاهة هذا القول، إلا أنه يحمل ضمنًا مخاوف من أن يتجاوز المشهد تصحيح أخطاء لسياسات وسياسيين، عبر أدوات النقد الذاتي العقلاني، إلى مرحلة مغايرة من التشدد المخيف، الذي يعود بأوروبا إلى حضارة القرن الوسطى، بما فيها من نزعات غير إنسانية، قبل أن تعرف القارة أزمنة التنوير.
سؤال التنوير هنا بدوره مثير، ويستدعي منا طرح التساؤل التالي: "هل التنوير الأوروبي هو الذي قاد إلى هذه المرحلة من صعود اليمين المتطرّف والمتشدّد على هذه الصورة التي أفرزتها صناديق انتخابات الاتحاد الأوروبي قبل أيام معدودات؟
لعل أحد مفكري اليسار الفرنسي البارزين، "ريجيس دوبرييه"، كان أول من تَنَبَّه لهذه الإشكالية، وعليه فقد جاء مؤلَّفه الهام "الأنوار التي تعمي" ليضع الأوروبيين أمام حقائق لم يدركوا أهميتها بل خطورتها وقتها، وها هم يفعلون.
باختصار غير مُخِلّ، يذهب دوبرييه إلى القول بأن الإغراق في العلمانية والتطرف إلى حد التشدد في الإيمان بها، ورفض كل معالم وملامح الروحانيات، والتمركز حول الذات، حتى بلوغ مرحلة "عبادة الإنسان"، جميعها أصابت الحضارة الغربية الأوربية بنفس المساوئ التي انسحبت على الحضارة الشرقية، حين سلمت زمام أمورها للأصوليات الضارة، وليس بالمعنى الإيجابي لفكرة ومفهوم الراديكالية عند كارل ماركس.
هل من عالم اجتماع وفيلسوف آخر غير أوروبي تنبَّأَ قديمًا بما جرى ويجري الآن في أوروبا؟
الحديث يأخذنا إلى الروسي الشهير "بتريم سوروكين" (1889- 1968)، والذي تحدث باكرًا جدًّا عن ثلاثة اتجاهات ضخمة تتكشف في العصر الحالي، بدأت بإبداع ثقافي صنع فاتحة تحول عهد تاريخي من داخل أوروبا، انطلق إلى بقية أجزاء العالم، ثم مرحلة تالية من ثقافة حسية حديثة جعلت أصحابها يعانون في مرحلة لاحقة من مرحلة تفكك مستفحل، كما هو حادث الآن بالفعل أوروبيًّا وربّما أميركيًّا، وأخيرا المرحلة الثالثة التي يسميها زمن الشتلات الأولى لنظام ثقافي جديد صاعد ومتزايد ببطء، أي حضارة مغايرة عمَّا عرفته أوروبا من قبل.
لم يعد سرًّا القول إن زعامة الغرب توشك على الانتهاء، فقد تضاءلت قوة وتأثير الثقافة الأوروبية عقدًا بعد آخر فيما الإمبراطوريات الأوروبية العظيمة تاريخيًّا والتي غطت الذاكرة الحديثة للأرض انزوت واختفت، وهربت مراكز الحياة المبدعة من أوروبا الأنجلوساكسونية إلى أميركا الشمالية، ومن إسبانيا والبرتغال إلى أميركا الجنوبية، بينما حدث في أراضي الاتحاد السوفيتي السابقة، النمو الأكثر حيوية، لا في روسيا القديمة، بل في الجزء الآسيوي الذي كانت تهيمن عليه سابقًا، وفي الوقت نفسه تتمتع اليابان والصين والهند وإندونيسيا وبلدان عربية بنهضة ثقافية، وهي تتطور اجتماعيًّا وسياسيًّا وعلميًّا وتقنيًّا، وفي الوقت نفسه تمارس تأثيرًا جديدًا في الشؤون الدولية وتُصَدِّر أديانها وفلسفاتها وفنونها وقِيَمها الثقافية إلى الغرب، أي أنها تنتج حضارة مغايرة.
هل ستعزز انتخابات الاتحاد الأوروبي الأخيرة نغمات بقاء بلدان أوروبا منفصلة ومستقلة عن بعضها البعض أولا، وعن سياقها الجغرافي الأوراسي ثانيًا، ومع بقية العالم لاحقًا؟
الجواب يذكّرنا بمقولة أوروبا الحديقة الغنّاء التي يحاول البعض التسلق من فوق أسوارها، والذي أطلقه جوزيب بوريل، ممثل الاتحاد الاوربي للشؤون الخارجية قبل نحو عام.
في كل الأحوال أوروبا أمام اختبار مصيري، قد يأخذها إلى الركود الحضاري أولاً، ثم الخروج من دائرة الفاعلية الحضارية في المستقبل غير البعيد، ودخول لاعبين جدد فاعلين في العبارة الدولية بأكبر قدر ممكن من الإيجابيّة.
أوروبا مدعوّة أمام انتخاباتها الأخيرة للتفكير بالعقلية الصينية في معنى كلمة أزمة، والتي تُقرَأ على أنها فرصة أو خطر، وعلى الأوروبيين الاختيار قبل مغادرة القطار زمن الحضارة التي كانت يومًا ما.

 

arabstoday

GMT 08:25 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

دمامة الشقيقة

GMT 08:23 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

بشار في دور إسكوبار

GMT 08:17 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

سوريا الجديدة والمؤشرات المتضاربة

GMT 08:14 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

هجمات رأس السنة الإرهابية... ما الرسالة؟

GMT 08:13 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

الشرق الأوسط الجديد: الفيل في الغرفة

GMT 08:12 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

ممرات الشرق الآمنة ما بعد الأسد

GMT 08:11 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

الفنانون السوريون وفخ المزايدات

GMT 08:10 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

الباشا محسود!

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الزلزال الأوروبي والحضارة الجديدة الزلزال الأوروبي والحضارة الجديدة



الأسود يُهيمن على إطلالات ياسمين صبري في 2024

القاهرة ـ العرب اليوم

GMT 04:57 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

زيلينسكي يتهم الغرب باستخدام الأوكرانيين كعمالة رخيصة
 العرب اليوم - زيلينسكي يتهم الغرب باستخدام الأوكرانيين كعمالة رخيصة

GMT 11:26 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا يتفقدان سجن صيدنايا في سوريا
 العرب اليوم - وزيرا خارجية فرنسا وألمانيا يتفقدان سجن صيدنايا في سوريا

GMT 00:21 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

مشروب طبيعي يقوي المناعة ويحمي من أمراض قاتلة
 العرب اليوم - مشروب طبيعي يقوي المناعة ويحمي من أمراض قاتلة

GMT 14:11 2025 الجمعة ,03 كانون الثاني / يناير

محمد سعد يشيد بتعاونه مع باسم سمرة ونجوم فيلم "الدشاش"
 العرب اليوم - محمد سعد يشيد بتعاونه مع باسم سمرة ونجوم فيلم "الدشاش"

GMT 05:19 2025 الخميس ,02 كانون الثاني / يناير

جنوب السودان يثبت سعر الفائدة عند 15%

GMT 19:57 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

دراسة حديثة تكشف علاقة الكوابيس الليلية بالخرف

GMT 09:06 2025 الخميس ,02 كانون الثاني / يناير

القضية والمسألة

GMT 09:43 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

استعادة ثورة السوريين عام 1925

GMT 09:18 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

الكتاتيب ودور الأزهر!

GMT 10:15 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

لماذا ينضم الناس إلى الأحزاب؟

GMT 18:11 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

النصر يعلن رسميا رحيل الإيفواي فوفانا إلى رين الفرنسي

GMT 18:23 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

حنبعل المجبري يتلقى أسوأ بطاقة حمراء في 2025

GMT 21:51 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

انفجار سيارة أمام فندق ترامب في لاس فيغاس

GMT 22:28 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

27 شهيدا في غزة ومياه الأمطار تغمر 1500 خيمة للنازحين

GMT 19:32 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

صاعقة تضرب مبنى الكونغرس الأميركي ليلة رأس السنة

GMT 10:06 2025 الأربعاء ,01 كانون الثاني / يناير

صلاح 9 أم 10 من 10؟

GMT 08:43 2025 الخميس ,02 كانون الثاني / يناير

باكايوكو بديل مُحتمل لـ محمد صلاح في ليفربول

GMT 06:02 2025 الخميس ,02 كانون الثاني / يناير

ريال مدريد يخطط لمكافأة مدافعه روديجر

GMT 00:30 2025 الخميس ,02 كانون الثاني / يناير

25 وجهة سياحية ستمنحك تجربة لا تُنسى في عام 2025
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab