نصر أبوزيد من «المنفى» إلى الرحيل

نصر أبوزيد.. من «المنفى» إلى الرحيل

نصر أبوزيد.. من «المنفى» إلى الرحيل

 العرب اليوم -

نصر أبوزيد من «المنفى» إلى الرحيل

بقلم:خالد منتصر

فى ذكراه الرابعة عشرة تذكرت مقالاً كنت قد كتبته له فى منفاه وقبل الوداع الأخير، مطالباً فيه الدولة آنذاك بأن تحمى وتستعيد نصر أبوزيد: ها هى غربة نصر أبوزيد تتحول إلى اغتراب، وحنينه إلى الوطن ينقلب غضباً، هذا هو ما أحسست به عندما قرأت حديثه الأخير الذى أدلى به إلى محمد الأتاسى فى دمشق، كنت أتمنى بدلاً من حديثه الرمضانى الموجع أن يأكل معنا الفول والمخلل فى الحسين، وأن نتسكع معه فى وسط البلد نخترق معاً حجب الضباب مع مطلع الفجر يدفئنا صوت محمد رفعت والنقشبندى، ونمارس النميمة على سكان كوكب المسلسلات التليفزيونية الرمضانية، ولكن أخرسنا صقيع هولندا وبرودة أطراف المحروسة!! هزتنى دموعه من الأعماق، وبكيت معه عندما انهمرت هذه الدموع كالفيضان واختنق د. نصر بالبكاء فى حفلة المطرب محمد منير التى قدمها أخيراً فى دمشق، سأله الأصدقاء عن سر بكائه فقال: «عندما شاهدت فيلم المصير وسمعت لأول مرة أغنية علّى صوتك بالغنا، وجدتها طريفة وضحكت، لكن عندما غناها منير هنا ولحظة قال لسه الأغانى ممكنة، انتفضت ولم أعد أستطيع التحكم فى دموعى، ورحت أسأل نفسى: أفعلاً هى ممكنة!! وعندما بكيت فى المغرب حين غنى الأصدقاء للشيخ إمام، وتوقفوا بعدها واعتذروا متخيلين أنهم جرحونى، قلت لهم: لماذا تتصورون أنه الألم؟ استمروا فى غنائكم، ودعونى فى دموعى، هى بمثابة غسيل لى».

لأول مرة أقرأ للدكتور نصر حديثاً عن الموت والفراق، تخيلناه نحن المثقفين القساة أحياناً الواصلين دوماً بعد فوات الأوان، تخيلناه منحوتاً من الجرانيت، شاهدناه وهو يحارب خفافيش الظلام فى الجامعة، ويصر على حقه فى الترقية ليس أملاً فى الدرجة العلمية لمواطن باحث عن مكان أكاديمى مرموق، ولكن أملاً فى الدرجة الحضارية لوطن يبحث عن مكان على خريطة المستقبل، حسبناه بخيالنا المريض رجلاً صلباً لا يبكى ما دام على هذه الدرجة العظيمة من القوة، لم نكن نعرف أنه عندما يذهب إلى غرفة نومه فى شقته المتواضعة فى مدينة 6 أكتوبر يجهش بالبكاء، وهو يدير شريط تسجيل حياته منذ أن خرج من قريته الواقعة فى حضن الدلتا عاملاً بسيطاً باحثاً عن العلم فى دروب وشوارع ومقاهى ومدرجات القاهرة، إلى أن طردته نفس هذه الدروب، ولفظته هذه الشوارع، وتمنعت عليه مدرجات جامعته لدرجة أن آخر رسالة دكتوراه اشترك فى مناقشتها تمت تحت حراسة الأمن المركزى!! كان يبكى وهو يحتضن يد زوجته ابتهال التى دس المجتمع أنفه بينهما يريد تفريقهما وكأن الحب والزواج شقة مفروشة يستطيع المجتمع المالك أن يطردك منها، أو رخصة مرور يسحبها منك عسكرى الدرك متى شاء وكيف شاء!!

بعد أن قتلوا الحب والحياة وخنقوا المعرفة والدهشة كان لا بد أن يتحدث نصر أبوزيد عن الموت وهو يبكى هناك على قبر نزار قبانى، الذى عاش مثله فى الغربة وعندما مات رفض المتطرفون الصلاة على جثمانه، قال خائفاً من نفس المصير: «تخيلت أن الأمر نفسه يحدث مع زوجتى إن هى قررت أخذ جثمانى إلى مصر، وعندما زرت قبر صلاح الدين لم أستطع أن أمنع نفسى من مقارنة تواضع قبر صلاح الدين بأبهة أضرحة القادة العرب، لا أنكر أنى فى الآونة الأخيرة رحت أتأمل فى مسألة الموت ومعنى القبر وقيمته، وتمنيت على زوجتى أن تدفننى حيث أموت، ولا تتجشم عناء نقل جثمانى إلى مصر، الأرض كلها أرض الله، ولا أريد لزوجتى إلى جانب الحزن الذى ستعيشه، أن يقول أحدهم كلمة أو يكتب مقالاً يجرحها ويزيد عناءها، وحتى إذا عدت إلى مصر ميتاً واحتفى بجثمانى فما معنى ذلك إذا كنت سأموت وحيداً بعيداً عن وطنى؟؟!!».

كم أنت قاسٍ أيها الوطن على أبنائك المخلصين، وكم أنت محق فى حزنك وغضبك يا دكتور نصر، فالوطن قد تركك تحارب الأفاعى والخفافيش وحدك، وبعض مدعى الثقافة عملوا كطابور خامس وباعوك عند أول منعطف، أما البسطاء الذين حاربت من أجلهم فقد تم تغييبهم فى عملية تخدير جماعى لكى تسهل قيادتهم، كل منهم درويش بدرجة مواطن، ينام على وسادته الفكرية المريحة التى صنعها له الأصوليون من ريش النعام، ولا يريد أن يستبدلها بوسادة العقل فهو مرادف القلق، وأعرف أنك مجروح من وطنك ولأول مرة تعلن ذلك ولك كل الحق عندما قلت «نعم أنا مجروح بمعنى الغضب، ولا أخجل من ذلك، فمن حقى أن أغضب، وأعتقد أن غضبى يحمينى أحياناً، أحب مصر إلى درجة أنى لا أريدها أن تكون مقبرة لى، مصر وطن حرمت العيش داخله فلماذا أدفن فيه؟ إذا كان وطنك لا يريدك حياً، يجب أن تحرمه منك ميتاً، أنا أميز بين مصر الناس ومصر المؤسسات، لكن مع ذلك هى علاقة غريبة جداً، أحياناً أفكر بمصر وكأنها أمى، لكنها أمى التى رفضتنى ونبذتنى، إلى درجة أنى قلت لها: يا مصر أنا كنت عايز أفتح طاقة نور وانتى مش عايزة فبخاطرك يا مصر، أنا بعيد عن المكان وليس عن الناس، أحمل حبى للمصريين وغضبى من مصر، والجامعة هى جرحى الذى لا يندمل».

انتهت إجابة نصر أبوزيد ولكن هل انتهت إجابة الوطن؟ أعتقد أنها قد بدأت، وعلى المسئولين أن يتحملوا مسئوليتهم ويقوموا بدورهم ويسعوا لعودته، وأعتقد أنه قد آن الأوان لعودة نصر أبوزيد لإثبات أننا ما زلنا مجتمعاً مدنياً متحضراً لم يعشش الفكر الإرهابى المتخلف فى نخاعه الشوكى بعد، وعلينا كمجتمع أن نثبت لأنفسنا قبل الآخرين أننا قوم نتحمل الخلاف ونعلى من قيم الحوار ونتسامح مع الفكر أياً كانت طبيعته ما دام ظل فكراً ولم يتحول إلى كلاشنكوف، فليس من المعقول أن يظل مفكر كبير فى قامة نصر أبوزيد مطارداً كل أمنيته كما قال فى الحديث «أن أزور قريتى وألتقى بإخوتى الذين لم تتح لى فرصة وداعهم»، هل من المعقول أن نتركه فى هذا اليأس المزمن بلا أى أمل كما يقول فى حديثه الموجع «يعنى إيه الأمل فى إنى أكسب المعركة، أنا النهارده داخل على الستين، وسأحال قريباً إلى التقاعد حسب قوانين الجامعة، يعنى خلاص ما فيش معركة، وعلى الأجيال الجديدة أن تخوض معركتها، الجامعة المصرية خربت بفعل عوامل الفساد المنتشرة فى المجتمع ككل، والفساد يسند بعضه بعضاً، وأنا لا أتوقع أن تقوم قائمة للجامعة المصرية فى المستقبل القريب، والمفروض أن تكون الجامعة هى رأس رمح التقدم فى أى مجتمع، الأمر أصبح عندنا مختلفاً، فى السابق لم يكفر طه حسين داخل الجامعة، أما أنا فقد تم تكفيرى فى الجامعة وحوكمت خارج الجامعة»، ومن تشخيص أوجاع الجامعة إلى تشخيص سرطان الوطن ككل، حيث قال «إنهاك مصر لم يكن لأسباب اقتصادية أو عسكرية، إنما حصل استنزاف للعقول خلال الحقبة النفطية والهيمنة الوهابية على المؤسسات الدينية، وإذا كان مفهوم النفط كبنية اقتصادية معناه أن تتحقق الثروة بدون عمل، أى أن الثروة موجودة تحت الأرض ولا يحتاج استخراجها إلى الحفر، فكذلك أصبحت المعرفة موجودة فى الماضى وهى لا تحتاج إلى إعمال العقل للوصول إليها، بل تحتاج فقط إلى نبش الماضى بحثاً عن حلول الحاضر».

هل نفيق قبل أن يداهمنا التصحر الحضارى؟ هل نستطيع الربط ما بين عودة نصر أبوزيد كرمز للتحضر وعودة الخضرة والخصوبة إلى براعم العقل المصرى الذى جف كالصبار؟ هل نستطيع دعوته لبلده وفتح أبواب العودة أمامه وكأننا نفتح نوافذ الأمل كى نستقبل نسمات العقل الناقد والفكر المستنير؟ إن الرجل قد بلغ حافة جبل اليأس ولم يعد أمامه إلا القفز كعباس بن فرناس، الذى حاول الطيران فى مجتمع لا يعرف إلا الزحف، إننا حين ننقذ نصر أبوزيد فإننا ننقذ أنفسنا، إن عودته هى حماية لنا قبل أن تكون حماية له، لا بد أن يعود ولتكن البداية دعوته لمناقشة رسالة علمية وسنحميه بأجسادنا حتى يعود هذا المفكر العظيم للحديث عن الحياة والمستقبل، فهل وصلت الرسالة أم أننا لم نعد نتقن حتى فن القراءة؟!!.

arabstoday

GMT 00:50 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

خطى تتعثَّر

GMT 00:46 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

«برابرة»

GMT 00:42 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إيران باتت تدافع عن نفسها

GMT 00:37 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

موسما الهجرة من لبنان وإليه!

GMT 00:31 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

روح أكتوبر!

GMT 00:23 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل و«حزب الله».. سيناريو ما بعد التوغل

GMT 00:20 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

إسرائيل تتجسس على أصدقائها.. فما البال بأعدائها؟!

GMT 00:14 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

حوارات لبنانية

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نصر أبوزيد من «المنفى» إلى الرحيل نصر أبوزيد من «المنفى» إلى الرحيل



جورجينا رودريغيز تتألق بالأسود في حفل إطلاق عطرها الجديد

القاهرة ـ العرب اليوم
 العرب اليوم - سوسن بدر تتحدث عن حبها الأول وتجربتها المؤثرة مع والدتها

GMT 19:55 2024 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

نابولي يعزز صدارته للدوري الإيطالي بثلاثية ضد كومو

GMT 13:54 2024 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

دعوى قضائية تتهم تيك توك بانتهاك قانون الأطفال فى أمريكا

GMT 14:19 2024 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

النفط يتجه لتحقيق أكبر مكسب أسبوعي منذ أكتوبر 2022

GMT 13:55 2024 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

ارتفاع حصيلة قتلى إعصار هيلين بأمريكا إلى 215 شخصا

GMT 15:57 2024 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

اختفاء ناقلات نفط إيرانية وسط مخاوف من هجوم إسرائيلي

GMT 06:22 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

الوزير السامي

GMT 10:04 2024 السبت ,05 تشرين الأول / أكتوبر

مصرع 4 وإصابة 700 آخرين بسبب إعصار كراثون في تايوان

GMT 09:20 2024 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

الألعاب الإلكترونية منصة سهلة لتمرير الفكر المتطرف

GMT 13:50 2024 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

بايرن ميونخ يعلن غياب موسيالا بسبب معاناته من الإصابة

GMT 04:51 2024 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

حلول زائفة لمشكلة حقيقية

GMT 04:58 2024 الجمعة ,04 تشرين الأول / أكتوبر

إيران: الحضور والدور والمستقبل
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Arabstoday Arabstoday Arabstoday Arabstoday
arabstoday arabstoday arabstoday
arabstoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
arabs, Arab, Arab