بقلم - خالد منتصر
تحدثنا اليوم عن وسوسة علم الطب، وتساءلنا: ما خطوات تلك الوسوسة؟ اكتشفت حضرتك دواء ووجدت أن جيرانك وكل سكان شارعك بل ومحافظتك كلها بتقول إنها خفت وشفيت على إيديك، هل سنعتبر وسيعتبر المجتمع العلمى ما اخترعته دواء؟ للأسف لا، فالكثير من الأمراض تكون أعراضها مما نسميه subjective وليست objective بمعنى أنها ذاتية متعلقة بشخص المريض وليست موضوعية، وإحساس الشفاء يكون مجرد وهم شخصى، ولذلك حتى مفهوم الشفاء لا بد أن يكون موضوعياً إحصائياً منضبطاً غير متروك للأهواء، كذلك وعلى الجهة الأخرى فإن عدم استجابة بعض المرضى لدواء معين لا يدل على عدم فاعلية هذا الدواء ومن هنا تأتى أهمية علم الإحصاء، فارتفاع الكوليسترول مثلاً لن يؤدى بالضرورة لجلطة فى قلوب كل من يعانون منه، وكذلك ليس كل مدخن بالضرورة لا بد أن مصيره هو سرطان الرئة حتمياً، فالمسألة نسبية وتحتاج انضباطاً إحصائياً، وهنا يأتى السؤال: أليس شفاء مريض بعد أسبوع نتيجة إعطائه دواء معيناً هو بالضرورة نتيجة هذا الدواء؟ الإجابة: لا، ليس بالضرورة، وهنا سنفكر بالمنطق العلمى، الشفاء بعد هذا الدواء واحد من ثلاثة أشياء:
- إما استعمال هذا الدواء حقق شفاء أو أسرع به.
- إما أن طبيعة المرض هى أن يتم الشفاء تلقائياً بعد أسبوع، سواء بعلاج أو بدونه.
- إما أن طبيعة المرض أنه يُشفى بعد ثلاثة أيام وأن الدواء قد امتد بالفترة إلى أسبوع.
من هنا تأتى أهمية خطوات البحث العلمى الطبية وانضباطها حتى تحسم هذا اللبس، ففى قصة «فيروس سى»، على سبيل المثال، لا بد أن تكون التجارب أولاً على خلية، ثم ننتقل إلى مرحلة إجراء التجارب على الحيوانات، وهنا ليست أى حيوانات، ولكنها الحيوانات التى نسيجها مشابه وينفع لإجراء التجارب على هذا الفيروس مثل الشمبانزى، ثم ننتقل إلى التجارب على البشر، والتى سنطرح تفاصيلها لكى نعرف أن القصة ليست لعبة ولا جهجاهون ولا سمك لبن تمر هندى!
• يأتى السؤال الثالث الذى أسمعه يتردد فى الشارع: وفيها إيه التجارب على البشر ما دام حنلاقى نتيجة ونتعالج ونخف؟ هو انتو لا بترحموا ولا بتسيبوا رحمة ربنا تنزل! والإجابة: موافق على كلامك، ولكن لا بد من اتباع الضوابط حتى نحمى حق المريض وحتى نحمى أطباء البلد من محاكمة عالمية، فبعد محاكمات نورمبرج واكتشاف أن أطباء النازى أجروا تجارب على البشر، اجتمع العالم المتحضر على وضع قواعد للتجارب الطبية على البشر واعتبار من يخترقها ويتجاوزها مجرماً مثله مثل مجرمى الحرب، واجتمع الخبراء والأطباء ممثلو بلادهم فى هلسنكى وكتبوا اتفاقية هلسنكى، وهذه بعض بنودها:
• يوضع بروتوكول كامل للتجربة توافق عليه هيئة محايدة تدرس أهمية إجراء التجربة ويتم التأكد من غياب أى خطر على المريض.
• لا بد من أخذ موافقة الشخص المرشح لإجراء التجربة عليه، ويجب أن تكون الموافقة واعية ولا يجوز استعمال الأطفال حتى ولو وافق الأهل، وأيضاً لا تجرى تجارب على غير عاقل أو مقيد الحرية، بل لا يصح استعمال مرضى الطبيب الذى سيجرى البحث لأنهم ممكن أن يكونوا مرتبطين به عاطفياً إلا بعد موافقتهم بواسطة طبيب غريب عنهم.
• لا يجوز شطب دواء معروف التأثير واستخدام دواء تحت البحث، خاصة فى حالة الخطر، إلا بعد توافر أدلة قاطعة على أن الدواء الجديد أفضل، ويطبق فى هذا إجراء متخصص اسمه التحليل المتتابع.
ما سبق وتفاصيل أخرى كثيرة فى هذه الاتفاقية لم تعد وجهة نظر أو اختياراً أو ترفاً، ولأن 20% من تأثير الدواء نفسى لذلك كان ولا بد من اختراع طريقة قياس محددة لفاعلية أى دواء يجرى عليه البحث، لكن ما تلك الطريقة؟