نتباكى كل يوم على الماضي، وأنه لم تعد لدينا عبقريات أو نوابغ، والحقيقة أن العيب ليس فى قلة النوابغ، ولكن فى عدم تسليط الضوء عليهم والاهتمام بالتفاهات، وصلتني رسالة من أستاذ الرياضيات القدير د. طارق سيد أحمد، القائم بعمل رئيس القسم فى كلية علوم القاهرة، وهو ابن الكاتب الكبير معلم وأستاذ جيلنا محمد سيد أحمد، الرسالة تتحدّث عن شاب نابغة للأسف لا يعرفه أحد فى مصر، مجهول فى المحروسة، مكرّم ومبجل فى العالم الغربي، ستعرفون لماذا من خلال الرسالة، يقول د. طارق: حصل عمر عثمان محسن على الدكتوراه فى الرياضيات من فرنسا فى عام 2018 وهو فى الثانية والعشرين من عمره.
وكان قد لاحظت أسرته أنه متميز فى مادة الرياضيات فى المدرسة وهو فى سن 14!، وأسهم مدرس الرياضيات فى مدرسته بمصر فى تنمية هذا التميز، فحضر عمر عثمان بشكل ودى فى مرحلة البكالوريوس، ثم الدراسات العليا فى قسم الرياضيات بكلية العلوم فى جامعة القاهرة.
ثم حضر المدرسة الصيفية فى الرياضيات فى مصر، ومن بعدها سافر لحضور مدرسة رياضيات دولية، ومنها حصل على منحة للدراسات العليا فى فرنسا دون أن يضطر إلى الانتظار حتى الحصول على شهادة الثانوية العامة.
وقد قمت بالتدريس لعمر عثمان محسن على مدار عدة سنوات قبل سفره، فى فترة ما بين الرابعة عشرة والسابعة عشرة من العمر. وكان عمر عثمان محسن قد اجتاز دراسة كل مقرّرات الرياضيات فى مرحلة البكالوريوس، ثم انتظم فى حضور ثلاثة من المقرّرات التى أدرسها فى قسم الرياضيات بعلوم القاهرة: وهى «المنطق الرياضى»، و«نظرية جوديل»، و«موضوعات مختارة فى الرياضيات عن نظرية المجموعات واستقلال axioms of choice وcontinual hypothesis عن المسلمات المعتمدة لنظرية الفئات».
ثم فى محاضرات المدرسة الصيفية التى عُقدت فى صيف 2010، والتى نتجت عنها كتابة بحث مشترك بينى وبين عمر عثمان محسن نُشر فى مجلة رياضيات دولية رفيعة المستوى سنة 2011.
التحديات:
1) حاولنا نحن أساتذة قسم الرياضيات إلحاق عمر عثمان محسن فى قسم الرياضيات بالكلية كطالب منتظم ليحصل على شهادة علمية من الجامعة، ولكن كان العائق هو عدم حصوله على الثانوية العامة، وبالتالى ضرورة الانتظار عدة سنوات. كما لم ننجح فى الحصول على استثناء من وزير التعليم العالى ولا رئيس الوزراء.
2) قُمت بالتواصل مع زميلى د. روبين هيرش أستاذ الرياضيات وعلوم الحاسب فى جامعة لندن ورئيس مجموعة لندن فى علم المنطق، والذى كان قد قابل عمر عثمان واختبره فى جامعة لندن استعداداً لإلحاقه بالدراسة الجامعية هناك.
واجتاز عمر عثمان الاختبارات كلها، ولكن حالت دون التحاقه ضرورة أن يصاحبه ولى أمره خلال سنوات الدراسة بسبب صغر سنه. وهو الأمر المستحيل بالنسبة لأسرته حينذاك.وفى ظل ذلك العائق، اقترح أ.د. روبين هيرش، وكذلك زميلى فى جامعة القاهرة أ.د. أحمد الجندى أن يتقدّم عمر عثمان إلى مدرسة صيفية جامعية فى الرياضيات بفرنسا، وهو ما حدث بالفعل.
وحضر عمر عثمان إلى المدرسة ولفت إليه أنظار الجميع، فاقترح عليه أحد الأساتذة المشاركين أن يتقدم إلى مسابقة فرنسية للالتحاق ببرنامج الدكتوراه فى الرياضيات فى أرقى جامعة فرنسية فى الرياضيات تتيح الالتحاق بها للنوابغ دون شروط سوى التميّز التام. وقد تقدّم عمر عثمان لهذا البرنامج، فالتحق بالبرنامج، بل منحوه منحة كاملة للماجستير والدكتوراه.
وهو ما حقّقه عمر عثمان محسن بتميز، وكان ضمن لجنة تحكيم رسالة الدكتوراه الخاصة به أحد أهم علماء الرياضيات فى العالم (حاصل على جائزة فيلدز ميدل، وهى الموازية لجائزة نوبل)، والذى أبدى انبهاره بالرسالة.
وهكذا حصل عمر عثمان محسن على الدكتوراه فى فرنسا وهو فى الثانية العشرين من العمر، وتم تعيينه للتدريس بالجامعة، وقد استقر فى فرنسا فى إحدى أرقى الجامعات فى العالم، ويواصل أبحاثه حتى اليوم.
وخلال السنوات الماضية حصل على جائزة «بيكوت» وجائزة «هيربرند»، وهما جائزتان تمنحان من الأكاديمية الفرنسية لأفضل عالم رياضيات فى العالم يبلغ من العمر أقل من ثلاثين عاماً.
ويظل د. عمر عثمان محسن على تواصل معنا، حيث يتردّد على قسم الرياضيات فى كلية العلوم بجامعة القاهرة ويُلقى محاضرات مفتوحة للطلاب والأساتذة (دون مقابل)، حيث يعرض فيها أحدث ما وصل إليه العلم عالمياً فى مجال الرياضيات بشكل عام وتخصّصه الدقيق non-commutative geometry، وهو التخصّص الذى يُمثل أحدث صيحة فى علم الرياضيات لاستخدامه فى علم الفيزياء (string theory) التى تُمثل إطار محاولة توحيد نظرية الكم والنظرية النسبية العامة لأينشتاين.
انتهت رسالة د. طارق، ولكن لم تنتهِ دهشتى من اهتمامنا بمطرب مهرجانات وإهمال عالم رياضيات!