منذ ثمانية عشر عاماً ودعنا، فى ذكرى قديس المحاماة أحمد نبيل الهلالى، أترحم على الترفع والتواضع والسمو والمهارة والصدق والموضوعية والتجرد التى كانت من سمات هذا الرجل المدهش المبهر الذى تبرع بثروته من أراضٍ وعقارات ورثها عن والده، آخر رئيس وزراء فى زمن الملكية، وما أدراك ما ثروة رئيس وزراء ملكى فى الخمسينات، لكن من هو أحمد نبيل الهلالى لمن لا يعرفه من الشباب؟
ولد المحامى النبيل المعروف أحمد نبيل الهلالى عام 1922، حصل على ليسانس الحقوق عام 1949 واشتغل بالمحاماة منذ هذا التاريخ وانتُخب عضواً فى مجلس نقابة المحامين فى الدورات المتتالية منذ 1968 حتى 1992، وهو أحد شيوخ مهنة المحاماة.
انضم إلى الحركة الشيوعية المصرية منذ 1948 وكان أحد كوادر الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى «حدتو»، اعتقل مرتين خلال عهد الرئيس جمال عبدالناصر، الأولى عام 1959 واستمر سجنه خمس سنوات، ثم اعتقل مرة أخرى عام 1965 لمدة أربع سنوات، أسس حزب الشعب الاشتراكى فى 1987.
من أهم مؤلفاته «حرية الفكر والعقيدة تلك هى القضية، اليسار المفترى عليه ولعبة خلط الأوراق»، يقول مفسراً كيف هو ابن الرأسمالية وأصبح يسارياً؟!، يقول: لعل انتمائى لأسرة برجوازية هو الذى أتاح لى فرصة مشاهدة المطبخ الداخلى للمجتمع الرأسمالى.. واكتشفت من هذه المشاهدة ومنذ الصغر الوجه الصحيح الكالح القبيح للرأسمالية.
اليوم أترحم على المحامى اليسارى العتيد، والذى برغم خلافه الفكرى الجذرى مع جماعات الإسلام السياسى دافع عنهم فى زمن السادات ومبارك لأنه لا بد من وجود محامٍ للمتهم كحق قانونى أصيل.
ولأنه كان نبيلاً فى خلافه قبل الدفاع، أترحم على محامٍ ماهر فى عمله، صادق فى تعامله، متسامح فى خلافه، شفاف الضمير، صلب الاحتمال، عنيد فى الحق، أترحم على الهلالى الذى كان يدفع رسوم قضايا الغلابة من جيبه الخاص!
وأنا أترحم على الهلالى إذا بصديق متعاطف مع عصابة الإخوان يقول: «تَرَحَّم كما شئت، ولكن نبيل الهلالى الشيوعى بتاعك فى النار والمحامى إياه ومعه صبحى صالح الذى دعا إلى الله أن يميته على دين الإخوان وكل المحامين الملتزمين اللى بيدافعوا عن الإخوان فى الجنة بإذن الله! كان يتحدث بلهجة الواثق من صكوك غفرانه التى يوزعها بالمجان على البشر».
مما ذكرنى بمقولة الإخوان الخالدة: «قتلانا فى الجنة وقتلاهم فى النار»، تركته سابحاً فى أساطير ثقته الراسخة ونعيم أحلام فردوسه الذى نسجه بخياله المحلق، ذَكَّرته فقط بأن قتَلة رفعت المحجوب من الجماعة الإسلامية خرجوا براءة على يد نبيل الهلالى، بسبب مهنيته وثقافته.
كان ولابد أن نطرح علامة الاستفهام المؤرقة تلك، لو كان نبيل الهلالى حياً بيننا حتى شاهد إخوان زمن الشاطر ومرسى بعد ٢٠١١، هل كان ليقبل أن يدافع عنهم؟! الإجابة لا، لأن الوضع مختلف.
كان الهلالى يدافع عنهم فى الماضى، بدافع رفع الظلم عن معتقلين، كان يظن أنها قضايا رأى وأنهم يعبرون عن رأيهم، هذا القديس لفرط رهافة حسه خُدع فى هذه العصابة، ولكنه لو عاش حتى لحظة ما بعد التمكين، كان سيشاهد الوجه الآخر، كان سيشاهد مذبحة كرداسة وإلقاء الأطفال من على أسطح المنازل وحرق الكنائس وتفخيخ السيارات وقنابل المولوتوف والتخابر مع الخارج والعمالة، ومحاولة إسقاط الدولة والجيش وترويع الشعب.
لو كان نبيل الهلالى قد شاهد كل هذه المآسى فلابد أنه كان سيخلع الروب ويلقيه فى ساحة المحكمة ويذهب إلى حيث أطلال ما خربته يد الإخوان ليبكى مصر التى سرقتها عصابة الإخوان واغتالت وجدانها وخربت روحها وقسمت شعبها وانتهكت عقلها، رحم الله القديس نبيل الهلالى، أقولها دون أن أسأل شيخاً عن مصيره ودون أن أطلب صكّ غفرانه، لأننى واثق من أن الله مع الغلابة البسطاء الذين كان يعشقهم ويرعاهم ويخدمهم الهلالى.