بقلم - خالد منتصر
" اسجد حباً ، لا تسجد خوفاً" ، إن كان لكل رواية مفتاح ، فهذه الجملة كانت مفتاحي لرواية " ماريو وأبو العباس" ، تلك الرواية البديعة التي تتمتع بلغة رشيقة وحس صوفي في منتهى الصفاء والشفافية ، الرواية للكاتبة ريم بسيوني ومن إصدار دار نهضة مصر ، والرواية خلفها جهد بحثي وتاريخي في كتب المتصوفة ،ذات القاموس اللغوي الصعب ، والمعاني الباطنة الغامضة التي تحتاج إلى جانب المعرفة بأسرار اللغة ، التجرد من نفايات الحياة وتفاصيلها التافهة التي تحجب الرؤية وتخفي النور ، الرواية ليست عن أبي العباس القطب الصوفي الآتي من مرسية بالأندلس ، وماريو المهندس المعماري الذي بنى مسجده والآتي من إيطاليا، ولكنها عن الصراع التاريخي الذي يمزقنا حتى تلك اللحظة، بين دين الخوف، ودين الحب، بين الكراهية والعشق ، دين الخوف الذي تدافع عنه المؤسسات الدينية من أجل البيزنس ، ودين الحب الذي يخاصم الاستعراض فيتعرض للتهميش لأنه يعري ويفضح سماسرة الدين ، أبو العباس عندما نجا من عواصف البحر وفقد أسرته وكانت معه سيدة يهودية ، قال له الشيخ عبد الجبار ، إن الله سيعاقبها !، ثم يأتي الشيخ العدوي ليقتل ابنه علي ، ثم يحيك ضده صديقه الشيخ عبد الباري المؤامرات، ويكفره الشيخ تقي الدين ،فيرجمه الناس بالحجارة في الإسكندرية ، ثم يسجنه الشيخ الخضر الذي أحرق الكنيسة ، ودفع الثمن أبو العباس لأنه وقف ضد حرقها ، خاصم أبو العباس القسوة ، والشماتة، والكراهية ، تبنى الطفل ياقوت الحبشي المقروح المنهك الضعيف ، قاوم اغراء المال ، والسلطة حين أتاه بيبرس ليعرض عليه أكبر منصب ديني ، قاوم إغراء الشهوة مع نجمه خاتون أجمل نساء مصر ، جاهد نفسه ، وهذا هو الجهاد الحقيقي ، أضاء النور المطمور في كل من حوله، ابن عطاء الله السكندري ، جعله يكتشف علمه وذكاءه ، البوصيري استخرج من صدفة نفسه لؤلؤ الشعر فكتب البردة بعد أن كان يصف هو نفسه شعره بالتافه، أيقظ في ياقوت الحب والعطاء والاستغناء ، كان وفياً لشيخه الشاذلي ، ومعطاء لتلاميذه ، برغم كل السباب والهجوم والتكفير، إلا أنه أصر على بذر الخير ، ليزهر نبات الحكمة في وقته ، عشقه ماريو الذي برغم الغربة والمعاناة وفقد الابن وهي ندبات روح اقتسمها مع أبي العباس ،برغم الانهاك وفقدان عينه اليمنى إلا أنه أصر على استكمال بناء أجمل مساجد الإسكندرية التي تحمل اسم القطب الصوفي العظيم ، أجواء الحرب سواء حرب المنصورة أو الحرب العالمية تغلف الرواية وتمنحها مع هذا الجو الصوفي رائحة البارود ، لأن تلك هي الحياة ،عطر ياسمين ودخان بارود ، قبلات وطعنات ، وهذه هي الرواية الجيدة ، حياة تنبض على الورق ، وقد أجادت ريم قياس ورصد هذا النبض بكل عذوبة ، وبكل ذكاء.