بقلم - محمود خليل
بعد زوال حكم الفاطميين، اعتلى المماليك كراسى السلطنة فى مصر، وهم أجانب جلبهم الحكام من جهات عدة، وتعلم بعضهم العربية من الاحتكاك بالسكان، وكانت اللهجة السائدة فى الشارع حينذاك هى العربية العامية التى يتحدثها أولاد البلد، وبالتالى فقد انعكست على من استطاع تعلم العربية من الأمراء المماليك.
انظر على سبيل المثال إلى ما يذكره «ابن إياس» وهو يحكى فى «النجوم الزاهرة» عن سبب خلع الملك المنصور، وأنه كان شغوفاً باللهو وسماع الأغانى والموسيقى وشرب الخمر، فصار يطلب الغلمان فى الليل لإحضار المغانى، وحدث ذات ليلة أن غلبه السكر ففتح شباك بيته ونادى الأمير أيدغمش، وقال له: «هات لى قطقط!.. فرد أيدغمش: يا خوند.. ما عندى فرس بهذا الاسم»!
و«قطقط» اسم لمغنية كان «المنصور» يحب الاستماع إليها، وألفاظ مثل «هات لى.. وابعت لى» وخلافه هى جزء من تركيبة العامية المصرية ما زالت مستخدمة حتى اليوم.
وقد رد «أيدغمش» عليه قائلاً: يا خوند -أى يا سيد- ما عندى فرس بهذا الاسم، حين ظن أن الملك يطلب أحد خيوله ليمتطيه تحت جنح الظلام، ورد «أيدغمش» يشبه ما يتردّد فى العامية: «ماعنديش فرس بهدا الاسم».
وحتى اسم «قطقط» يحمل روائح العامية المصرية التى تفوح فى البيئة المصرية حتى اللحظة، ويذكر «ابن إياس» أن هذه الواقعة حدثت عام 742 هجرية.
يحكى «ابن إياس» أيضاً أنه فى عهد السلطان «الناصر أحمد» القلاوونى على مصر، تم القبض على نائب السلطنة «الأمير قوصون» بسبب تعسّفه مع الأهالى، وجعل من جمال الدين بن يوسف والياً على القاهرة، فثار الأهالى لأن «جمال» كان أحد مماليك «قوصون»، وانطلقوا فى نهب بيوت مماليكه، وعندما سألهم الأمير أيدغمش عن سر ثورتهم ردوا عليه قائلين: «الأهالى: وليت على الناس واحد قوصونى ما يخلى منا واحداً».
ثم تصايحوا بالأمير أيدغمش: «زودنا لنروح إلى أستاذنا الملك الناصر».. العبارات: «موش هيخلى منا حد».. و«نروح إلى أستاذنا الملك الناصر» وغيرها تبين لك أولاً أن العامية كانت اللهجة الرسمية المعتمَدة فى مصر، كما توضح لك نوعها وطبيعتها.
وقد ظلت اللغة العربية فى مصر تمارس على هذا النحو داخل الشارع المصرى، وأى حديث يُقال عن الفصحى واستخداماتها لم يكن يخرج عن أروقة دور العبادة أو المخاطبات الرسمية.
فكما انزوت «القبطية» فى دور العبادة، انزوت الفصحى منذ اللحظة الأولى لدخولها إلى مصر فى دور العبادة أيضاً، وطور المصريون لهجتهم العربية الخاصة بهم.وقد كان من الطبيعى أن تعانى العربية الفصحى من إشكالية الازدواجية بعد خروجها من منبتها فى الجزيرة العربية، وأن تخضع للتطور، وتتفرع إلى لهجات، وكان من الطبيعى أيضاً ألا تندثر الفصحى وأن تظل قائمة ومحفوظة داخل دور العبادة، والسر فى ذلك أنها لغة القرآن الكريم، ووعد الله تعالى بحفظ الذكر الحكيم، الذى هو وعد أيضاً بحفظ اللغة الحاملة له، لكن للشعوب شئون وأحكام، وهى فى كل الأحوال تطوّع قاموس اللغة والقواعد الحاكمة لها لتصبح مستساغة وقادرة على التعبير داخل الشارع.
خلود العربية الفصحى طبيعى.. وظهور اللهجات العامية طبيعى أيضاً.. وعملهما جنباً إلى جنب داخل الواقع المصرى طوال هذه القرون دليل على ما تتمتع به الفصحى من عافية وما يتميز به المصريون من حيوية.