ما إن فرغ الحسن بن علي من الصلاة على أبيه وإكرامه بالدفن، حتى تقدم قيس بن سعد بن عبادة إليه ومد يده له يبايعه خليفة جديدا للمسلمين.
الموقف كان مذهلاً للرجل، فهو أولاً يعاني أشد الحزن على أبيه الراحل، وفي الوقت نفسه يخشى مآلات الأمر، وهو العقل الذي لا يتوقف عن الحساب السياسي، ويعلم أن الأمور أفلتت تماماً.
سكت "الحسن" ولم يعد يسمع الأصوات التي تردد نص البيعة له، ولم يشعر بالأيادي التي تمتد إليه لمبايعته، وإن هي إلا لحظات حتى وجد نفسه خليفة خامسا للمسلمين، بعد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي. جملة وحيدة رددها "الحسن" أمام الجميع، حملت شرطه لقبول البيعة، قال فيها: "البيعة على حرب من حاربت ومسالمة من سالمت".
بايع أغلب الناس دون أن يتفكروا ملياً في الجملة التي كان يرسم بها "الحسن" سياسته القادمة، والمرتكنة إلى القراءة الدقيقة للمشهد الذي انتهى إليه المسلمون.
كانت سياسته ترتكز على فكرة الحرب المركزة الخاطفة لأهل الشام، بحيث تحسم المعركة في أقصر وقت، وبأقل خسائر، وإن لم تفلح هذه الخطوة في حسم الأمر وتحقيق الاستقرار، فلا سبيل أمامه إلا التنازل ومسالمة معاوية، حقناً لدماء المسلمين.
بدأ الحسن الترتيب للحرب الخاطفة، وأعد جيشاً كبيراً، جعل على مقدمته تحت قيادة قيس بن سعد بن عبادة، وسار في أثره مع مجموعة ضخمة من المقاتلين قاصداً الشام، لقتال معاوية وجنوده.
وبينما كان الجيش يسير حدثت واقعة شديدة الغرابة، إذ فوجئ الناس بمن يصرخ: قُتل سعد بن عبادة.
كان الوقت ليلا، فاضطرب الجنود أشد الاضطراب، وتصوروا أن جيش الشام باغتهم وهجم عليهم، فأخذوا يضربون بعضهم البعض، وينتهبون أمتعة بعضهم البعض، إلى حد أن وصلوا إلى سرادق "الحسن"، وطعنه بعضهم دون أن يتبين شخصيته، وأصيب بعدة جروح.
والأخطر من ذلك أن البعض فكر في تقييده وتسليمه إلى "معاوية" مقابل المال، لولا أن قبح الآخرون مقترحه، ولم يتصوروا أن يفكر أحد في تسليم سبط رسول الله إلى خصمه.
أصاب هذا الموقف "الحسن" بحزن شديد، وتبينت له كل الأمور.
فالفرقة وتضارب المصالح هو الخيط الجامع لمن تحلقوا من حوله.
وليس بمثل هؤلاء تتحقق الأهداف، أو يمكن لقائد أن يخوض معركة حاسمة.
قرر "الحسن" الخروج من المشهد برمته والتصالح مع معاوية بن أبي سفيان على التنازل له عن الإمرة.
قرار تنازل "الحسن" عن الخلافة لمعاوية وتصالح الأخير معه على ذلك، يدلل على أن "الحسن" هو الخليفة الراشد الخامس، وأن معاوية حتى لحظة التنازل كان مجرد والى على الشام، وتتعجب وأنت تلاحظ ما يصر عليه المؤرخون من نعت عمر بن عبد العزيز بالخليفة الراشد الخامس، وكأنها محاولة لطمس دور سبط رسول الله في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ المسلمين، وغبنه في موقع تبوأه عن جدارة، ووصف كان أحق الناس به، وهو وصف الخليفة الراشد الخامس.
لا يستطيع أحد أن يقلل من تميز تجربة عمر بن عبد العزيز في الخلافة، واحتكامها إلى قاعدة الحكم الرشيد، لكن ذلك لا يعني بحال طمس دور الحسن بن علي كخليفة راشد خامس، تولى أمر المسلمين في لحظة شديدة الحرج، وامتلك شجاعة التضحية وتحمل رذالات الآخرين وهو يتخذ قرار التنازل عنها.
خلافة الحسن بن علي امتدت لحوالي ستة أشهر، حتى تنازل عنها لمعاوية سنة 40 من الهجرة