بقلم - محمود خليل
«عيش ندل تموت مستور» من أبشع الأمثال الموروثة عن الآباء والأجداد، ولا أظن أنها بعيدة عن المطبخ الثقافى المملوكى، تلك التى تشجع الفرد على أن يكون جباناً، مثل «الجبان له نصف الدنيا» و«الجرى نصف الجدعنة»، أو نذلاً مثل «عيش ندل تموت مستور».لم يكن المماليك بالجبناء، حين يواجهون عدواً، على العكس تماماً اشتهر فرسانهم، وخصوصاً الأولين، بقدر واضح من الشجاعة والثبات فى مواجهة أشد الأعداء، لكن مخزون الشجاعة أخذ فى التآكل عند الانتقال من جيل إلى آخر منهم، فتحللت الأجيال الجديدة من العديد من الفضائل التى تميزت بها الأجيال الأولى. على سبيل المثال كانت هناك فجوة كبيرة بين أداء قطز وبيبرس فى مواجهة التتار، وأداء قنصوه الغورى وطومان باى فى مواجهة العثمانيين. ولعلك تتفق معى فى أن الأجيال التى تلت آخر سلاطين الجراكسة من المماليك كانت أسوأ حالاً ممن واجهوا العثمانيين. وبإمكانك أن تستدعى من الذاكرة أداء مراد بك وإبراهيم بك فى مواجهة الحملة الفرنسية.كان الأميران المملوكيان إبراهيم ومراد هما من يديران أمر البلاد عند دخول الحملة الفرنسية إلى مصر. والاثنان كانا من تلامذة الأمير محمد بك أبوالدهب. واجه الاثنان عدوهما دون أى إدراك لحجم قوته، فكانت الهزيمة السريعة من نصيبهما، وبدلاً من أن يتراجعا نحو الأهالى ويلتحما معهم فى مواجهة المحتل، فر الاثنان بفرسيهما، إعمالاً بمبدأ «الجرى نصف الجدعنة»، وتركا الأهالى فريسة للفرنسيين.هرب إبراهيم بك إلى الشام وتحصن بين مماليكها، أما مراد بك ففر كما تعود نحو الصعيد، وأخذ يتنقل من قرية إلى قرية. يحكى «جوزيف مارى مواريه» صاحب كتاب: «مذكرات ضابط فى الحملة الفرنسية على مصر» أن «مراد بك» كان يدخل القرية من قرى الصعيد فيقابله أهلها بالبشر والترحاب، فيدهمهم بخبر أن الفرنسيين قادمين من ورائه، فينزعج الأهالى، فيأخذ فى طمأنتهم وتشجيعهم ويصف رجال عدوهم بأنهم ضعاف قصار القامة، لا يجيدون العدو بالخيل، أو المبارزة بالسيف، أو الرشق بالرمح، وأنهم إذا خرجوا إليهم بالعصى فسيقضون عليهم، ثم يستأذنهم لجمع المماليك من أقاضى الصعيد وترتيبهم لمواجهة المحتل. كان الأهالى الغلابة يصدقونه فيما يقول، ويخرجون لملاقاة الفرنسيين المسلحين بأحدث أسلحة العصر فيلقون حتفهم. عندما سئل مراد بك فيما يفعله بالأهالى وكيف يلقى بهم هكذا فى أتون القتل، رد ضاحكاً: أعلم أن أهل القرية سيموتون، لكن قد يفلحون فى قتل اثنين أو ثلاثة من الفرنجة، وفى ذلك مكسب كبير، لأن عددهم سيقل، بعد أن انقطع المدد الواصل لهم من فرنسا، وبالتالى تضعف شوكتهم شيئاً فشيئاً ويسهل مواجهتهم، لم يكن «مراد» يجد غضاضة فى أن يموت آلاف المصريين مقابل عشرات الفرنسيين فى سبيل تنفيذ خطته اللوذعية.كادت معادلة «عيش ندل تموت مستور» أن تنجح مع مراد بك، لكن الأقدار كان لها رأى آخر، ففى جولاته المختلفة التى كان يدفع فيها الأهالى إلى مواجهات غير متكافئة، دون أن يأبه بأرواحهم، كمن له شبح الموت، فأصيب بالطاعون، ومات به.