بقلم - محمود خليل
«الإيد اللى ما تعرفش تعضها بوسها».. هذا المثل مملوكى بامتياز.. وهو يعبِّر عن تجلٍّ من تجليات «الذات المهدرة».
والقارئ لتفاصيل الحياة خلال الحقبة المملوكية من تاريخ مصر يلاحظ تأرجحهم بين الهدر (تقبيل الأيادى) والإهدار (العض). فهم بالأساس قوم مهدرون، تعلق مصيرهم بيد غيرهم، لكنهم لم يتأخروا فى الأغلب عن إهدار الغير، حين باتت أمورهم بأيديهم، وسقطت فيها مصائر الآخرين.
تعلم أن المماليك رقيق أبيض كان يتم جلبهم من أماكن مختلفة، فمنهم التركى والجركسى والهندى وغير ذلك، يشتريهم الحكام والأمراء المتصارعون على الحكم فى بلاد المسلمين ليستخدموهم كأداة حرب ضد خصومهم، فعل العباسيون فى العراق ذلك، وفعل الأيوبيون فى مصر والشام ذلك، فاستكثر حكامهم من شراء المماليك وتدريبهم قتالياً ليكونوا عدة حربهم ضد أعدائهم أو من ينافسونهم على الحكم.
لم يكن للمملوك أب يعرف به، أو عائلة ينتسب إليها، بل عادة ما كان يتم نسبته إلى أستاذه الذى اشتراه، أو النخاس الذى باعه.
بعضهم كان يحاول الإفلات من أسره فيعض ويضرب ويقاوم ويحاول، ولكن ما أقل ما نجح، وما أكثر ما عوقب على ذلك أشد العقاب.
ولحظة العقاب هى دائماً لحظة تعليم. ومنها تعلم المماليك الدرس «الإيد اللى ما تعرفش تعضها بوسها»، وكذلك كانوا يفعلون مع أساتذتهم ومن يملكون زمام أمرهم، فيقبلون أيديهم، ثم تمتد أيديهم بالضرب والتلطيش إلى وجوه الأهالى الضعاف، لأن عضهم سهل.
عاش المماليك مهدرين كأطفال مخطوفين، اقتنصهم التجار والنخاسون من بلادهم، وساروا بهم إلى أراض بعيدة، وباعوهم لمن يريد استغلالهم كأدوات حرب وصراع، وعاشوا مهدرين فى البلاد التى استقروا فيها تتناقلهم أيدى الأمراء وكأنهم مجموعة من العصىّ، حتى يعتقهم أمير، فإذا ما نالوا حريتهم نظر لهم أبسط مواطن كبشر مقطوعى النسب، فى حين يعلم هو أباه وجده وجد جده، يهابهم قطعاً لأنهم يمتلكون أدوات قهره، لكنه يحتقرهم من داخله، وفى العلن لا يتردد فى تقبيل أيديهم التى لا يستطيع عضها.
لم يخلد فى تاريخ الشيخ العز بن عبدالسلام مسألة كما خلدت فتواه ببيع أمراء المماليك الأتراك، حين واجه بيت المال أزمة فى تمويل الجيش الذى سيخرج لملاقاة التتار أيام السلطان «قطز»، فأفتى ببيع أمراء المماليك، لأنهم عبيد مملوكون للدولة، وثمنهم جزء من المال العام، وقد أجبروا بالفعل على دفعه.
أسعدت هذه الفتوى طوابير المهدرين أمام المهموز والدبوس والعصا المملوكية.
فأخيراً وجدوا من يستطيع عض كبار المماليك، وظلت هذه الفتوى تتناقل من جيل إلى جيل كدليل على سلطان الكلمة الذى امتلكه سلطان العلماء.
لا تستطيع أن تتوقع من ذات مهدرة على هذا النحو أن يكون لديها إحساس خاص بذاتها، أو تضمن ألا يهدروا ذوات غيرهم حين يجلسون على منصات القوة.
لقد ذهب عصر المماليك وبقى أحد الدروس التى تعلمها الناس منهم، درس «الإيد اللى ما تعرفش تعضها بوسها»، وملخصه هدر النفس وسكب كرامتها على الأعتاب حتى تعتلى مقعد القوة، فإذا اعتلته أهدرت من لا يزال لديه إحساس بذاته، أو بقية منه.