بقلم - محمود خليل
كلمة «مهموز»، ومثلها كلمة «دبوس»، من الكلمات التى شاعت فى العصر المملوكى. وما أكثر ما تختزن الكتب من أحاديث عن المهاميز والدبابيس التى كان يطعن بها المماليك بعضهم بعضاً، والهمز -لغة- معناه الطعن فى الظهر، وهى لعبة أجادها المماليك، وغرسوا أصولها فى الثقافة المصرية، فبقيت بعدما رحلوا.
ضرب المهاميز وشكّ الدبابيس كان جزءاً من فكرة المؤامرة التى سادت العصر المملوكى. وعصرهم -كما تعلم- نسيج من المؤامرات. يكفى فى هذا السياق أن تعرف حكاية اعتلاء واحد منهم سدة الحكم فى مصر، وهو الناصر محمد بن قلاوون الذى تولى أمر السلطة بعد اغتيال أخيه الأشرف خليل على يد بيدار وحسام الدين لاجين، وكان عمره حينذاك 9 سنوات. وبسبب سنه الصغيرة طمع فيه الأمراء فرتبوا لخلعه من السلطنة، ونجحوا فى ذلك حين انقضّ عليه نائب السلطنة «كتبغا المنصورى» وأطاح به وجلس مكانه، وولى حسام الدين لاجين نائباً للسلطنة، بعدها انقضّ عليه الأخير، وفعل معه فعلته مع «الناصر» وأطاح به وجلس مكانه على كرسى السلطنة، وعيّن مملوكه «منكوتمر» نائباً للسلطنة، وأساء الأخير معاملة الأمراء، فتآمروا على لاجين ونائبه فقتلوهما معاً، وعاد الناصر محمد بن قلاوون إلى الحكم من جديد، وعمره حينذاك 13 سنة، وولى بيبرس الجاشنكير منصب أتابكى العساكر (رئيس القوات)، ولم يمر وقت طويل حتى ساءت العلاقة بين السلطان والأتابكى، فخلع السلطان نفسه، وترك للأمراء حرية اختيار سلطان جديد، فاختاروا بيبرس الجاشنكير.
وكانت أول خطوة اتخذها «الجاشنكير» بعد الوثوب على السلطنة هى القبض على كل الأمراء الموالين للناصر محمد بن قلاوون خصمه اللدود، ففرَّ كثيرون منهم إلى الناصر، ورتبوا للإطاحة بالجاشنكير وعودة الناصر محمد للمرة الثانية إلى الحكم، وهو ما كان. بمجرد وصول «الناصر» إلى القلعة فرّ بيبرس الجاشنكير إلى الصعيد، فأرسل له الناصر رسالة طمأنة وأمره فقط بأن يعود ويسلم ما استولى عليه من خزينة السلطنة، ففعل، وردّ كل شىء إلى الناصر، وفرّ نحو الكرك، لكن أمراء الناصر تمكّنوا من القبض عليه وهو فى الطريق، وجاءوا به إلى «الناصر» فنفذ فيه حكم الإعدام خنقاً أمام عينيه.
أنت أمام لعبة دائرية لا تنتهى. تبدأ من نقطة محددة، تتمثل فى مؤامرة، ثم تعود إلى النقطة نفسها من جديد، وكأن تاريخ الحياة فى تلك الفترة هو سلسلة من المؤامرات، وعمليات صعود وهبوط، فالصاعد هو من عرف كيف يضرب «المهموز الصح» أو يشك «الدبوس الموجع»، والهابط دائماً هو الضحية، وقد يتحول الضحية إلى جلاد فى لحظة، ويتحول الجلاد إلى ضحية فى أخرى.
تعلّم أولاد البلد فى العصر المملوكى اللعبة من أولاد الناس (أولاد المماليك)، وبدأوا يلعبون اللعبة نفسها مع بعضهم البعض، وبقى «المهموز» وشغل «المهمزة» و«الأسفنة» و«الزمبأة» و«التدبيس» شاهداً على تغلغل الثقافة المملوكية فى حياتنا حتى اللحظة، وتمكُّنها من إدارة العيش وأكل العيش بصورة تبدو أحياناً مرعبة.