البدايات نوعان.. بداية فقاعية تثير الإبهار لبعض الوقت ثم تنفثئ، وبداية متأنية تعتمد على الظهور الموضوعى ثم النمو البطىء، لكن بصورة مرتكزة ومتواصلة.
وظنى أن تجربة «قناة القاهرة الإخبارية»، التى انطلقت على خريطة الفضائيات الإخبارية أواخر أكتوبر 2022، تقدم نموذجاً للنوع الثانى من البدايات، فقد وجدت طريقها إلى المشاهد بضربة بداية هادئة وسط سوق فضائيات إخبارية تشتعل بالصخب، وتزدحم بعلامات تجارية تتفاوت فى قيمتها لدى الجمهور.
البداية الهادئة تحولت فى ما بعد إلى «حضور مهنى محسوس» عند تغطية الكثير من الأحداث العالمية، يتأسس على ركيزتين: أولهما «المعالجة المتزنة»، وثانيهما «المهنية فى الأداء».
تجد فكرة «المعالجة المتّزنة» حاضرة على ذلك الخط المتصل ما بين أول حدث عالمى غطته القناة، والمتعلق بمحاولة اغتيال «عمران خان»، رئيس وزراء باكستان السابق، أوائل نوفمبر 2022، والأحداث التى اشتعلت فى غزة، بدءاً من السابع من أكتوبر 2023 وتداعياتها التى ما زالت تتفاعل حتى الآن.
أما «المهنية فى الأداء» فتجد تعابيرها فى الكتيبة المتميزة من المراسلين، التى تعتمد عليها القناة فى تغطية الأحداث، وظنى أن هذه هى المرة الأولى التى نجد فيها نافذة إخبارية مصرية تعتمد على هذا الكم من المراسلين المنتشرين فى شتى البقاع الساخنة بالعالم.
أضف إلى ذلك منظومة البرامج الإخبارية التى تعتمد فيها على أجيال مختلفة من الإعلاميين (الكبار والشباب)، بما لذلك من انعكاسات على تقديم رؤى وألوان مختلفة من الأداء والمحتوى الإخبارى، الذى يجتهد فى الارتكان إلى القيم التى تحكم صناعة الأخبار.
الالتزام الوطنى ملمح آخر من ملامح تجربة «القاهرة الإخبارية» يستحق التوقّف أمامه، وهو التزام تجده حاضراً فى سياق المساحات المتميزة التى تفردها القناة للتحليل والتعليق.
وتُفسح فيها المجال لعرض وجهات النظر المختلفة، مع وعى كامل بالصالح المصرى الذى يتوجّب رعايته وحمايته.
وتثبت التغطية المتميزة التى تقدّمها القناة لما تشهده غزة حالياً من عدوان غاشم على النساء والأطفال والمدنيين التزاماً عروبياً رفيع المستوى من جانب القناة، من منطلق الأولوية، التى تشكلها قضية فلسطين على أجندة اهتمامات المواطن العربى.
كان لافتاً فى تغطية القناة لهذا الحدث المزج بين الالتزام العروبى، الذى يعكس موقع القضية الفلسطينية من قلب وعقل كل مصرى، فى قلب الوجدان المصرى، والالتزام الوطنى الذى يدافع بحرفية ومهنية عن حق مصر فى حماية أرضها وحدودها واستقلالية قرارها السياسى، دعماً للقضية، وصوناً لها من التصفية والتفريغ.
من اللافت أيضاً فى تجربة «القاهرة الإخبارية» دخولها السريع إلى «عالم الديجيتال»، فالقناة لم تنتظر كثيراً حتى تطرق أبواب الرقمنة، وقد أعجبنى فى عمل «قطاع الديجيتال» بالقناة: الوجوه الشابة التى يعتمد عليها، وهو أمر له أهميته فى ظل ما يعانيه الكثير من الفضائيات الإخبارية من عجز عن الوصول إلى الشباب.
بالإضافة إلى تنوع اللغات التى يقدّم عبرها المحتوى، ولعلك تتّفق معى فى الحاجة الماسة للوصول بمحتوى إعلامى خبرى عربى إلى المشاهد فى كل بلاد العالم.. التوجّه نحو الرقمنة مسألة لا بد أن تتمدّد فى صناعة المحتوى الخبرى داخل القناة لعدة أسباب، أولها الوصول إلى القطاعات الشبابية داخل عالمها «عالم الديجيتال»، وثانيها ترسيخ أقدام القناة فى عالم النوافذ الرقمية الآخذ فى السيطرة على أسواق صناعة الأخبار فى العالم، وثالثها تأكيد قدرة القناة على المنافسة.
عبر ما يقرب من 12 شهراً أصبحت «قناة القاهرة الإخبارية» رقماً مهنياً فارقاً على خريطة الفضائيات الإخبارية العربية
عبر ما يقرب من 12 شهراً أصبحت «قناة القاهرة الإخبارية» رقماً مهنياً فارقاً على خريطة الفضائيات الإخبارية العربية، رقماً وجد طريقه بهدوء وارتكاز إلى عقل ووجدان المشاهد العربى، وأظهر محتواها اجتهاداً فى التفرقة بين الدور المهنى والدور السياسى للقناة الإخبارية.
والعلاقة بين الإعلام والسياسة مسألة ثابتة فى أى تجربة عمل إخبارى فى الغرب أو الشرق. فليس ثمة بأس فى أن يكون للمحتوى الإعلامى دور سياسى، بشرط التوازن، وتفهّم حقيقة أن الواقع يحتمل أكثر من وجهة نظر، وأن التنوع يُثرى المحتوى، وأن تعدُّد المصادر يمنحه المزيد من المصداقية، ويُفسح له مساحة أكبر للتأثير فى عقل المشاهد ومعارفه، وتوجّهاته واتجاهاته.
تقديرى أن قناة «القاهرة الإخبارية» وجدت طريقها فى عالم الفضائيات الإخبارية على خط «المعالجة المتزنة ومهنية المحتوى».. وأتوقع أن تستكمل تجربتها على هذا الخط، مع المزيد من التطوير الذى يأخذ فى الاعتبار مسألتين: الأولى «المزيد من التنوع»، والثانية المزيد من الرقمنة.
التاريخ يشهد أن حكاية الإعلام فى منطقتنا بدأت من هنا.. فمن هنا كان «المبتدأ».. هنا تُولد أى تحولات نوعية على مستوى التجربة الإعلامية العربية.. فهنا أيضاً «الخبر».. من مصر دائماً ما يأتى «الخبر اليقين».. كل التوفيق لكتيبة العاملين بـ«القاهرة الإخبارية» وللصديق الإعلامى أحمد الطاهرى.