بقلم: د. محمود خليل
يتوزع أفراد أى مجتمع -فيما يتعلق بمستوى جودة الأداء- على ثلاثة أندية أساسية: نادى المتميزين، ونادى المتوسطين، ونادى المحدودين.
المتميزون دائماً قلة، ووجه تميزهم يتمثل فيما يمتلكون من قدرات تتعلق بصناعة الفارق فى المجال الذى يعملون فيه، وما يتمتعون به من مهارة اكتشاف أسباب المشكلات وإيجاد حلول مبتكرة لها، وامتلاك أفق التفكير المستقبلى.
فى المقابل تجد «متوسطى الأداء» كثرة، وقد يشكلون أغلبية، حين يتفوقون عددياً على المحدودين. ويمثل المتوسطون الكتلة الأقدر على الأداء بمستوى معقول، بما يؤدى إلى استمرار دوران العجلة، لكن لا تنتظر منهم تطويراً أو قدرة خاصة على التعامل مع المشكلات.
فالمتوسط يميل عند مواجهة مشكلة لا يجد لها حلاً محفوظاً أو معروفاً إلى تأجيلها، تماماً مثل الطالب المتوسط حين يواجه سؤالاً لا يجيب عنه سوى المتميزين، فتجده يؤجله إلى نهاية الامتحان.
أما المحدودون فهم قليلو القدرات، ويشكلون فيما بينهم كتلة أقل ميلاً إلى تشغيل العقل فى التعامل مع المشكلات، ويعتمد أداؤهم -فى الأغلب- على «الفهلوة» والعشوائية.
داخل أى مجتمع لا بد أن تجد متميزين ومتوسطين ومحدودين، أما حال المجتمع فمناطه مستويات تقديم أو تأخير كل كتلة من هذه الكتل الثلاث.
فتقديم المتميزين أصحاب المهارات والكفاءات يعنى تقدماً، أما تقديم المحدودين فتأخر، والاعتماد على المتوسطين فيعنى أداء لا يقدم ولا يؤخر.
لو أنك راجعت على سبيل المثال تجربة التحديث التى تبناها محمد على أوائل القرن التاسع عشر، فستجد أن فكرة تقديم المتميزين كانت حاضرة فى تفكيره، حين فكّر فى الاستعانة بالمصريين كرافعة للتجربة، فاختار المتميزين، ومنحهم فرصاً للتعليم داخل المدارس التى أنشأها، وتكفل بهم بصورة كاملة، فكانت المدرسة تعطيهم العلم والمأكل والملبس، ومن يثبت نبوغاً أكثر من غيره يسافر فى بعثات إلى الخارج، وحين يعود يجد نفسه فى المكان والمكانة اللائقة به.
اعتمدت السلطة فى ذلك الوقت على نظرة موضوعية عادلة إلى المتميزين، ولم تكن تلتفت إلى أصل أو فصل الشخص الذى تدفع به إلى الأمام، كانت تحلل فقط مدى استحقاقه للفرصة.على سبيل المثال، كان «رفاعة الطهطاوى» مجرد واعظ بالجهادية، تم اختياره لإمامة البعثة التى سيرها الوالى إلى فرنسا، و«على مبارك» فلاح مصرى من قرية «برنبال»، والدكتور طه حسين من أسرة بسيطة بقرية الكيلو بصعيد مصر، وعلى باشا إبراهيم من أسرة بسيطة بالإسكندرية، وطلعت باشا حرب من أسرة بسيطة بحى الجمالية.
على يد هؤلاء المتميزين الذين نالوا فرصتهم خطت مصر خطوات واسعة نحو الأمام، وسجل التاريخ أسماء هؤلاء وغيرهم كرواد للنهضة الحديثة.
أقوى عنصر فى معادلة التحديث التى تبناها الوالى الكبير تمثل فى الوعى بأهمية دفع المتميزين إلى الصفوف الأمامية، ومنحهم الفرصة كاملة، وأضعف ما فى هذه المعادلة هو النظرة البرجماتية للمتميزين كجزء من مشروع فرد هو محمد على، وليس كمشروع دولة تريد أن تعيد ترتيب منظومة الحياة، فتعمل باستمرار على ضخ المزيد من المتميزين، وتطوير المتوسطين والمحدودين، وتوظيفهم فى المواقع الأصلح لهم فى إطار خطة نهضوية عامة.