بقلم: د. محمود خليل
الصديقة مريم ابنة عمران امرأة وُلدت فى حضن الألم وعاشت به وتقدست فى محرابه.. وكان الألم بالنسبة لها طريق الحرية.. حرية الإنسان.. وبعد رحيلها عن الحياة تحولت إلى أيقونة مواساة للمتألمين، تشرق بنورها عليهم فتمسح جراحاتهم، وتبث السلام فى نفوسهم، وتمنحهم خبز الأمل فى تحرير الروح، لتنخلع من عبودية الأرض وتحلق فى آفاق السماء.
ميلادها كان حلماً فى حوصلة طائر، أبصرته أمها «حنة بنت فاقوذ» ذات يوم يحلق فى السماء ثم يحط على شجرة، فيخرج له فرخه الصغير، ويفتح فمه طالباً الطعام، فتميل عليه أمه بحنان وتطعمه.
العمر يجرى ومع جريانه يتراجع الأمل فى أن يكون لها طفل تأنس إليه، ويملأ عليها حياتها.
نظرت إلى الطائر وهو يطعم صغيره، ثم تحول بصرها إلى السماء، ودعت ربها القدير العظيم الحنان المنان أن يحقق حلمها ويرزقها بطفل، ونذرت إن استجاب الله لدعائها أن تهبه خادماً لمعبده.
«رَبِّ إِنِّى نَذَرْتُ لَكَ مَا فِى بَطْنِى مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّى إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».الحياة كما تأخذ تعطى، وكما تعطى تأخذ، وقد شاء الله تعالى أن يموت الزوج «عمران»، فى نفس اللحظات التى كانت «مريم» تتشكل جنيناً فى بطن أمها، وقال البعض إنه مات بعد ميلاد «مريم» بقليل.
مات «عمران» وشعرت «حنة» بألم عظيم فتَّت قلبها وشعور عميق بالوحدة، ولم تكن تجد الأنس إلا حين يتحرك الجنين الراقد داخل أحشائها، ليمنحها أملاً جديداً فى الحياة.
أخذت تحصى الأيام وتعد الليالى حتى حانت لحظة الوضع.
«فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّى وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنثَىٰ وَإِنِّى سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّى أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ».
تمنت «حنة» الولد وأراد الله أن يكون مولودها أنثى، لقد نذرت جنينها الذى لا تعرف كنهه لخدمة محراب الله ورعايته، وهو أمر ظنت الأم أنه لا يقوى عليه إلا ولد، فالذكر لا يعتريه ما يعترى الأنثى من فترات تعب، ولا يماثلها فى ضعف التكوين، لم يكن يحمل حديث «حنة» أى نوع من التوقف أمام قضاء الله وقدره، لكنه أمل داعبها، وتصور سكن عقلها غذته ثقافة زمانها ومكانها، وأدركت بمرور الوقت الدرس الذى أراد الخالق العظيم أن يعلمه للبشر، وهو أنه لا فارق بين ذكر وأنثى، وأن العبرة دائماً فى خدمة الحياة هو الإرادة والعزم، والأساس فى خدمة رسالة السماء هو الإيمان.
ليس للبنيان الذكورى أو الأنثوى معنى عند حضور العزم والإرادة.. فهما وحدهما المعياران الأكثر موضوعية للقوة التى يجللها الإيمان. وميلاد الصديقة مريم فى رحم الألم منحها قوة وعزم قل أن يؤتاه الرجال، وغلالة الرقة التى غلفت روحها جعلتها أشد إحساساً بألم الغير.. كما أن تفرغها للعبادة منذ أن أبصرت عيناها الحياة أهلتها لحمل كلمة الله والنور الذى خرج من أحشائها إلى العالم حاملاً بشارة السلام والمحبة.
«وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ».