بقلم: د. محمود خليل
عندما زاد عدد الرسائل التى تدفقت إلى الحسين بن على من أهل العراق، بعث إليهم ابن عمه «مسلم بن عقيل» ليستوثق له من الأمر، وعندما وصل «مسلم» إلى الكوفة تحلق حوله أهلها وبايعوه على إمرة الحسين ونصرته، وبلغ عدد من بايعوا على ذلك ثمانية عشر ألفاً، وبلغ الأمر «النعمان بن بشير»، الوالى الأموى على الكوفة، فخطب فى الناس وحذّرهم من الخروج على الخليفة، وأرسل إلى «يزيد» يعلمه بالأمر.
اتهم الأخير واليه على الكوفة بالضعف والتردّد فى مواجهة أنصار الحسين، فعزله وولّى «عبيد الله بن زياد» مكانه.
وصل «عبيد الله» إلى الكوفة وخطب فى الناس وحذّرهم من التمرد على «يزيد» وأنه سيأخذ المتمردين بأقصى درجات الشدة، تنفيذاً لأمر الخليفة.
وبمجرد نزوله من فوق المنبر نشر العرفاء (المخبرين) فى كل اتجاه، وأمرهم بجمع أسماء المتمردين وأهل الريب والخلاف والشقاق، وهدّد أى مخبر لا ينفذ أوامره حرفياً بالنفى أو الصلب.
عندما علم «مسلم» بمقدم عبيد الله بن زياد، تحرك وآلاف ممن بايعوه على نصرة الحسين وحاصروا قصر الإمارة، واتبع الوالى الجديد خطة حاذقة فى مواجهة ذلك، فدس أتباعه وسط الناس وبدأوا فى تهديدهم وتخذيلهم عن الالتفاف حول «مسلم».
«فجعلت المرأة تجىء إلى ابنها وأخيها وتقول له: ارجع إلى البيت والناس يكفونك، ويقول الرجل لابنه وأخيه: كأنك غداً بجنود الشام قد أقبلت، فماذا تصنع معهم؟. فتخاذل الناس وانصرفوا عن مسلم بن عقيل حتى لم يبقَ إلا فى خمسمائة نفس، ثم قلّوا أكثر حتى بقى فى ثلاثمائة، ثم قلّوا حتى بقى معه ثلاثون رجلاً فصلى بهم المغرب».
مأساة حقيقية عاشها «مسلم» فى الكوفة، فبعد أن التف الناس من حوله وبعث برسالة إلى الحسين يقول له فيها إن أنصاره بالآلاف فى الكوفة، وجدهم ينفضون من حوله شيئاً فشيئاً حتى صار وحيداً شريداً، يهيم على وجهه فى دروب الكوفة ولا يدرى أين يذهب.
انتهى الأمر بالرجل إلى الاختفاء فى منزل امرأة يُقال لها «طوعة»، فوشى ابنها إلى الأمير باختفاء «مسلم» فى دارهم، فأحيط به وحرّك «عبيد الله» صاحب شرطته فقبضت عليه، وجاءوا ببغلة فأركبوه عليها، وسلبوا منه سيفه، فلم يبقَ يملك من نفسه شيئاً.
فى هذه اللحظة أحسّ «مسلم» بالقهر والعجز وقلة الحيلة فبكى وعرف أنه مقتول، وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. فقال بعض من حوله: إن من يطلب مثل الذى تطلب لا يبكى إذا نزل به هذا! فقال: أما والله لست أبكى على نفسى، ولكن أبكى على الحسين وآل الحسين، إنه قد خرج إليكم اليوم أو أمس من مكة.
كان لسان حال الرجل يقول: «الكارثة تقترب»، فقد رأى بعين إيمانه أن ابن عمه «الحسين» مأخوذ لا محالة، وأن عبيد الله بن زياد والى الكوفة الجديد، لا يقل غشومة عن سيده «يزيد» الذى وضعه فى هذا الموقع ليأخذ «الحسين» وأنصاره بالقاسية، وأن كل ما قيل عن وصية أوصاها «معاوية» لولده «يزيد» بأن يصفح عن سبط النبى إذا ظفر به محض كلام، أو فى أقل تقدير لن يأخذ الابن به.كانت المأساة آخذة فى التشكل فى رحم «القسوة».. وهل تلد القسوة شيئاً غير المأساة؟