بدأ التعليم فى مصر على يد أجانب، كان من بينهم المعلمون والنظار ومديرو المدارس، ثم بدأ العنصر المصرى فى المشاركة ضمن هيئة التدريس بالمدارس الأولية والتجهيزية والعليا، وكان من بين أفراده المصريون العائدون من بعثات، أو من تعلموا فى مدارس الوالى وأثبتوا تفوقاً وكفاءة جعلتهم ينضمون بعد تخرّجهم إلى صفوف الأساتذة والمعلمين.
غلب الأجانب على المصريين عند النظر إلى تركيبة هيئة التدريس بالمدارس خلال العقود الأولى لظهور التعليم بمصر، لكن المسألة بدأت فى الاختلاف بعد ذلك، ولما وصلنا إلى بدايات القرن العشرين بات العنصر المصرى هو الغالب، وعمل جنباً إلى جنب مع المعلمين الأجانب، وتحت إشراف نظار ومديرين أجانب أيضاً.
كان المعلم يتمتع بمكانة ممتازة ومبجلة فى أوساط المصريين، يكفى فى هذا السياق أن نسترجع قصيدة شوقى التى ألقاها عام 1932 فى حفل نادى مدرسة المعلمين العليا، وفيه قوله الشهير: «قُم للمعلم وفه التبجيلا.. كاد المعلم أن يكون رسولا».
ولو أنك راجعت مذكرات بعض كبار مفكرينا الذين تعلموا فى مدارس مصر أوائل القرن الماضى فسوف تلاحظ النبرة الإيجابية التى تحدثوا بها عن معلميهم، وحكاويهم عن تأثرهم بهم فى رحلة حياتهم، لكن يبدو أن الأمور اختلفت بعد ذلك.
بإمكانك أن تراجع قصيدة إبراهيم طوقان التى عارض فيها شعر شوقى عن المعلم قائلاً: «شوقى يقول وما درى بمصيبتى قم للمعلم وفه التبجيلا.. اقعد فدينك هل يكون مبجلاً من كان للنشء الصغير خليلاً»، ولماذا نذهب بعيداً إلى «طوقان» الفلسطينى، ولدينا بيان عن حال المعلم تجده فى فيلم «غزل البنات» (إنتاج 1949).
شخصية الأستاذ «حمام» التى جسّدها نجيب الريحانى فى الفيلم تعكس لك التحولات التى وقعت للمعلم منذ أربعينات القرن الماضى. فبدءاً من اختيار الاسم الهزأة الذى يسخر منه الجميع، إلى وضع المعلم فى صورة «الهلفوت»، الذى يلعب به الصغار داخل الفصل، إلى تقديمه فى قالب الشخص المنزعج من شغلته، الذى يعلم الأطفال بالخناق، وانتهاءً بالتحول الخطير الذى بدأ يطرأ عليه بانخراطه فى إعطاء الدروس الخصوصية للتلامذة «البلدة» أبناء وبنات الباشوات.
وقبل فيلم «غزل البنات» كان فيلم «سفير جهنم» (إنتاج 1945) للمبدع يوسف وهبى، ولك أن تراجع الحوار بين بطل الفيلم المدرس «عبدالخلاق» وناظر المدرسة المصرى الذى يريد منه تغيير نتيجة طالب لينجح فى المواد التى رسب فيها، لأنه ابن ناس مقتدرين يدفعون مصروفات للمدرسة ولا ينسون النظار فى عطائهم، وانتهى الحال بالمعلم «عبدالخلاق» إلى أن يصادق الشيطان حتى يهرب من مأساته.
تجد الفكرة متكررة أيضاً فى مسرحية السكرتير الفنى لفؤاد المهندس عبر شخصية «ياقوت أفندى» (إنتاج 1968). ثم كانت اللطمة الأكبر لصورة المدرس فى مسرحية مدرسة المشاغبين (1971)، التى حولت المعلم إلى «ملوانى» يفكر بـ«عقل حلزونى».
يتهم البعض كتاب الأعمال الفنية السابقة وغيرها بتعمد الإساءة إلى صورة المعلم، والمسألة فى تقديرى ليست كذلك، ربما يكون الكتاب قد ركزوا على بعض الجوانب السلبية فى شخصية المعلم، مقابل إهمال بعض السمات الإيجابية، أو استدعوا نماذج مشوهة وأهملوا نماذج أخرى مستقيمة وتحاول القيام بدورها، لكن النتيجة واحدة، وتتمثل فى النظرة غير الإيجابية إلى المعلم المصرى، منذ أن بدأنا رحلة التعليم.
بإمكانك أن تراجع الحوار الذى كتبه نجيب محفوظ فى رواية «قصر الشوق» ودار بين السيد أحمد عبدالجواد وولده كمال الذى يريد الالتحاق بمدرسة المعلمين العليا. لقد غضب الأب وسفّه من اختيار ابنه مدرسة مجانية -قليلة القيمة- لا يدخلها أولاد الناس الطيبين، خريجوها يمتهنون مهنة المعلم، وهى كما يرى السيد أحمد مهنة تعيسة لا تحوز احترام أحد من الناس، هى مهنة يختلط فيها الأفندى بالمجاور، خالية من كل معانى العظمة والجلال.
مأساة كبرى يعيشها المعلم فى المجتمعات المؤمنة بالشهادة أكثر من التعليم، والتى تزن الشهادة نفسها بالبنكنوت وليس بأثرها فى التفكير والتطوير.. وهى مأساة قديمة متجدّدة فى ماضينا وحاضرنا التعليمى.