بقلم - محمود خليل
موضوع الدروس الخصوصية قديم هو الآخر، وهو جزء من «مجتمع الشهادات» الذى تأسس عليه نظامنا التعليمى الذى يُعلى قيمة الشكل على المحتوى، والختم الرسمى على الواقع الفعلى، والتعبير على التفكير، واللغة على المعلومة، والشهادة على التعليم المثمر فى الحياة.
ظاهرة الدروس الخصوصية وُلدت مع ميلاد التعليم الحديث فى مصر، وهى تكاد تكون إعادة إنتاج لفكرة التعليم مقابل أجر التى كانت تمارَس فى الكتاتيب والمكاتب (المدارس) المملوكية القديمة. وبعد ظهور المدارس الحديثة فى عصر محمد على كان المعلمون يأتون إلى أولاد الأكابر (البكوات والباشوات) لتعليمهم فى البيوت مقابل أجر معلوم، تجد عميد الأدب العربى -أكبر مدافع عن مجانية التعليم- يشير فى روايته «دعاء الكروان» إلى المدرس الخصوصى الذى كان يعلم «خديجة» ابنة المأمور فى البيت. يقول العميد على لسان آمنة بطلة القصة: «كنت أرافقها إلى اللعب على ألا ألعب معها، وأرافقها إلى الكُتاب على ألا أتعلم معها، وأرافقها حين يأتى المعلم ليُلقى عليها الدرس قبل الغروب على ألا أتلقى الدرس معها».
ولو أنك تأملت رواية «السكرية» للعالمى نجيب محفوظ فستلاحظ الصراع الذى نشب بين السيد أحمد عبدالجواد وولده كمال بعد تخرجه فى مدرسة المعلمين العليا حول الدروس الخصوصية، كان الابن يرفض هذا السلوك، ويكتفى بالتدريس فى المدرسة والقراءة فى البيت. يقول السيد أحمد لولده: «فى كل يوم يطلب إلىّ أصدقاء أن تعطى دروساً خصوصية لأبنائهم، لا ترفض الرزق الحلال، إن الدروس الخصوصية مصدر رزق واسع للمدرسين، والذين يطلبونك من أعيان الحى».
يصف نجيب مصر فى رواية السكرية أحوال مصر بعد ثورة 1919، أى خلال فترة العشرينات من القرن الماضى، والحديث هنا يدلل على أن الدروس الخصوصية كانت ظاهرة راسخة فى المجتمع منذ عقود عديدة مضت، والطلب عليها لم يكن من أسرة واحدة، بل من أسر عديدة انخرط أبناؤها فى التعليم، خصوصاً الأسر المقتدرة، وثمة إشارة فى هذا الجزء إلى وجود نوع من الجدل الدينى حول موضوع الدروس الخصوصية وهل هى حلال أو حرام، وحديث السيد أحمد عبدالجواد يبدو متصالحاً مع عدم حرمة الأمر، وقد عالجت السينما المصرية ذلك بشكل صريح فى فيلم الشيخ حسن -إنتاج عام 1952- الذى كان بطله شيخاً أزهرياً يفرح عندما يتفق على درس خصوصى، ويرى فيه رزقاً حلالاً بلالاً.
ولا أجدنى بحاجة للتأكيد على تواصل الظاهرة بعد ثورة يوليو 1952، إذ كانت الدروس الخصوصية جزءاً لا يتجزأ من العملية التعليمية، خصوصاً لأولاد الأكابر، أو لمن يقدر على تحمل تكلفتها من الأسر المتوسطة، وكانت مجموعات التقوية البديل الأقل كلفة لأبناء الطبقات الفقيرة الذين يريدون تحصيل الدرجات.
فى الماضى كان الإنفاق على الدروس الخصوصية يقدَّر بالملايين، وهو يقدَّر حالياً بالمليارات، وتتعجب وأنت تتأمل الأرقام التى تشير بعض الجهات إلى أن الأسر المصرية تنفقها على الدروس الخصوصية، حين تجد أنها تزيد بصورة كبيرة عما تخصصه الحكومة للتعليم فى موازناتها العامة، وكله فى سبيل «الشهادة». وأى محاولة لمحاصرة الدروس الخصوصية تقابل بمقاومة شديدة من الأسر لا لشىء إلا لأنهم يثقون فى الخدمة التى تقدمها السناتر والمدرسون الخصوصيون كوسيلة للحصول على الشهادة، أكثر من المدرسة، ناهيك عن تجذرها فى حياة المصريين الذين نظروا إليها منذ بدايات التعليم الحديث فى مصر على أنها مساحة جيدة للاستثمار فى أولادهم، تساعدهم على الحصول على شهادة، تمثل فيما بعد أداة للصعود الاجتماعى والاقتصادى، وما زال البعض يؤمن بهذه القناعة رغم تآكل قيمة «الورقة المختومة».