بقلم: د. محمود خليل
ليس هناك خلاف على أن توفير التعليم المجانى يمثل خطوة على طريق بناء العقل النقدى، لكن بشرط جودة الخدمة المقدمة، لأن المجانية بلا جودة تعنى ببساطة تشوشاً وتجهيلاً يضر أشد الضرر بالعقل العام.
قامت ثورة يوليو 1952 والتعليم ما قبل الجامعى مجانى بشكل كامل، أما التعليم الجامعى فقد ظل بمصروفات حتى أوائل الستينات حين قرر الرئيس عبدالناصر جعله بالمجان. اتسعت قاعدة المتعلمين مدفوعة بالمجانية من ناحية، وبانتعاش آمال الفقراء وأفراد الطبقة الوسطى فى الخروج من أسر وراثة وظيفة الأب (العامل والفلاح)، فازدحمت المدارس والجامعات بالتلاميذ والتلميذات والطلاب والطالبات.
الزحام -كما تعلم- يؤدى إلى تراجع مستوى جودة الخدمة. فجميل أن تتبنى السلطة فكرة المجانية وتحارب أى نوع من التمييز الطبقى الذى كان سائداً قبل ثورة يوليو فيما يتعلق بالحصول على فرصة للتعليم الجامعى، بشرط أن تبنى عدداً وافراً من الجامعات، ومن قبلها المدارس، وتوفر لها جميع الإمكانيات المادية والبشرية المطلوبة لتقديم خدمة تعليمية حقيقية قادرة على إذكاء شعلة العقل النقدى القادر على الإبداع والابتكار وطرح حلول للمشكلات وتطوير سبل الحياة ومعطياتها.
الإنصاف يقتضى أن نقول إن التعليم المجانى منذ الستينات أفرز طوابير من الخريجين المتميزين فى مجالات عدة، لكنه قدم للمجتمع فى مقابلهم جحافل من أنصاف المتعلمين والمشوشين الذين تحلقوا حول فكرة أن التعليم شهادة، وسلموا بضرورة طاعة الواقع الذى منحهم فرصة الحصول على الشهادة، ليعينوا بعدها فى وظائف، أى نعم لا تسمن ولا تغنى من جوع، لكنها أحدثت نقلات فى حياتهم لا يستطيعون إنكارها.
تدرى أن فترة الستينات كانت تعتمد على رؤية أحادية فى الإعلام والسياسة وغيرهما، ولم تكن فكرة النقد أو إعمال العقل فيما يحصل مأمونة، فجنح الكثيرون وقتها إلى «التسليم» وآثروا السلامة، لكن ذلك لم يمنع من وجود أصوات امتلكت شجاعة النقد، تجدها فى الكثير من الرموز اليسارية التى قاومت بعض التحولات التى بدأت تقع فى المجتمع المصرى خلال فترة الخمسينات، ودفعت ثمناً غالياً مقابل ذلك، لكن حدث بعدها نوع من التصالح بينها وبين السلطة الناصرية أوائل الستينات، أدى إلى انخراطهم فى عجلة التحول الاشتراكى التى دارت فى مصر بعد زيارة «خروشوف» لها.
اتجه بعض اليساريين وأصوات أخرى عديدة بعد ذلك إلى انتقاد حالة الرداءة التى أخذت تضرب الخدمة التعليمية، طالب البعض بإصلاح التعليم الجامعى وما قبل الجامعى، ورفع مستوى جودة الخدمة التى يقدمها، رغم علم الجميع بأن الدولة لم تعد تقوى على ذلك، وأنها بدأت منذ السبعينات فى رفع يدها عن مسألة التعليم برمتها، بل وظهرت فوق أراضيها مدارس خاصة بمصروفات، وأخرى أجنبية، وبدأت المسألة تتسع شيئاً فشيئاً حتى وصل طوفان المال إلى الجامعات فنشأت الجامعات الخاصة منتصف التسعينات.
ومفهوم بالطبع أن أصحاب المشروعات الخاصة كانت لهم -فى أغلب الأحوال- رسالة ربحية محددة بعيدة أشد البعد عن مسألة الارتقاء بجودة المنتج التعليمى، فواصل المنحنى الهبوط. وفى الوقت الذى كان منحنى التعليم فيه يهبط كان جنوح العقل المصرى للدخول إلى حظيرة التسليم يشتد.
ومع مطلع الألفية الجديدة بدأ هذا العقل يسلم بالعديد من الأفكار والمعانى الساذجة المضحكة، وأفكار ومعانٍ أخرى مرعبة التى لم يكن يتصور أى من أجدادنا أنه سيخرج من بين ظهرانيهم من يستطيع التسليم بها.