بقلم: د. محمود خليل
وقائع هذه القصة حدثت أيام الوالي محمد علي باشا، حين اتخذ قراراً بإقالة أمين المحكمة وكان اسمه "مصطفى الدجوي"، وعين مكانه رجلاً صيرفياً، تصادف أن اسمه أيضاً كان مصطفى الدجوي. أثر القرار كان موجعاً على نفس "الدجوي" الأول، فرفع شكوى إلى الوالي، لم يتابعها بعدها بسبب مرض أصابه، واستنتج وهو ينظر إلى حالته الصحية وهي تتدهور أن غريمه "الدجوي الثاني" استعان بساحر عقد له عقدة المرض، فرفع شكوى جديدة للوالي يتهم فيها خليفته في أمانة المحكمة بأنه سحر له حتى مرض.قرر محمد علي النظر في الشكوى، وأحضر "الدجوي الثاني" وواجهه بالاتهام، فاعترف بجرمه، وأرشد عن الساحر الذي استعان به، امر الوالى بالقبض عليه وأودعه حجرة يتناوب عليها اثنان من الحراس، وانتظر ما ستسفر عنه الحالة المرضية للشاكي، وقرر إن أصابه مكروه أن يقدم "الدجوي الثاني" إلى المحاكمة.وفي إحدى الليالي بينما كان أحد الحراس يقف أمام الحجرة نظر من ثقب الباب، فإذا به –ويا للغرابة- يلمح الساحر جالساً أمام مصطفى الدجوي، وأمامه شمعة مشتعلة، انطفأت فجأة، ثم اشتعلت بعدها أربعة شمعات انشقت عنها الأرض، اضاءات جدران السجن، قام الساحر وطرق على ثلاثة منها، فخرج من كل جدار شخص تحدث إليه الساحر بحديث، بعدها انطفأت الشمعات الثلاث، وبقيت شمعة واحدة مضيئة، ثم اختفى الساحر.في اليوم التالي استيقظ "الدجوي الأول" من نومه، وهو يشعر بالعافية تدب في أوصاله، توضأ وصلى، ثم تناول إفطاره كمالعتاد، وذهب إلى الوالي، استدعى محمد علي الحارسين، فروى له ثانيهما ما رآه أثناء الليل، فأدرك أن السحر انفك، وان "الدجوي الثاني" هو المجرم المتسبب في مرض الأول، فأقاله من منصبه، وأعاد إليه "الدجوي الأصلي".هذه القصة وغيرها راجت في حياة المصريين خلال القرن التاسع عشر، وتواصلت معهم في أثواب وأشكال جديدة، خلال القرن العشرين، وحتى ما بعد ذلك. فالكثيرون يعتقدون في السحر، تأسيساً على ما ورد في القرآن الكريم من آيات تتحدث عنه.وظني أن مفهوم السحر في القرآن لا يعبر عن خوارق عجائبية تتناقض مع المنطق العقلاني، بل يعبر عن سعي بشري تقليدي في إيذاء الغير، أو محاولة للإيهام وخداع الغير لاستقبال وقائع الحياة على غير طبيعتها. تجد المعنى الأول حاضراً في الآية الكريمة التي تقول: "فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه"، أما المعنى الثاني فتجده واضحاً في الآية الكريمة التي تقول: "فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى".فكل أحداث الحياة تسير بمقادير الله تعالى، ولا يستطيع من يزعم لنفسه قدرة على الإيذاء أو التضليل أن يفعل ذلك إلا بإذن الله: "وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله"، وليس بإمكانه أن يشوه وجه الحياة أو يضلل أهلها، لأن الفشل هو المصير المحتوم للساحر: "ولا يفلح الساحر حيث أتى".