بقلم: د. محمود خليل
مصطفى كاشف من أشهر المحتسبين الذين ذاع صيتهم أيام محمد على والى مصر.
وقد نبعت شهرته من الأساليب العجيبة التى اعتمدها فى معاقبة التجار الذين يبيعون سلعهم بأكثر من ثمنها، أو ينصبون فى الميزان.
ونادراً ما كان يفلت منه أى تاجر أو بائع يقع فى واحد من هذين الجرمين.
مرة واحدة أفلت فيها رجل من براثن عقابه، وكان السر فى ذلك أنه أضحك مصطفى كاشف، الرجل صاحب الوجه الخشبى الذى لم يره التجار أو البائعون ضاحكاً فى ليل أو نهار.بطل القصة بائع بطيخ عجوز، توكل على الله ذات صباح، وذهب إلى واحد من تجار البطيخ، واشترى منه حملاً وضعه على عدد من الحمير، ثم قصد السوق ليبيع ويربح قوت يومه.
وبينما كان العجوز يسير فى الطريق إذا بجلبة وخيول تثير الغبار، توقف الرجل عن السير، وانجلى الغبار عن مصطفى كاشف بشحمه ولحمه وحوله فرقة من الخدم والمساعدين.أمر المحتسب العجوز بالتوقف، فوقف الأخير مذعوراً، أخذ «كاشف» يجول بنظره على البطيخ الذى تراص على موكب الحمير، وأبصرت عيناه بطيخة ضخمة، تزهو بحجمها بين نظرائها من البطيخات المتراصة، فأشار بأصبعه إليها، ثم خاطب العجوز قائلاً: «كم سعر هذه البطيخة؟».
فأشار العجوز إلى شحمة أذنه بإبهامه وأصبعه المجاور له، ورد عليه قائلاً: «اقطعها يا سيدى».
وعاد مصطفى كاشف إلى السؤال، والرجل يجيب بالطريقة نفسها، كرر المحتسب السؤال مرات، ولم يظفر بجديد.رغم غضبه من الحوار غير المجدى مع العجوز فإن المحتسب لم يملك نفسه فانخرط فى نوبة ضحك طويلة حتى دمعت عيناه.
ولما هدأ سأل العجوز: يا رجل.. هل أنت مجنون أم أطرش؟.
فأجابه العجوز: لا والله لست بمجنون ولا أطرش، لكننى أعرف أننى لو قلت لك إن البطيخة بعشر فضات لأمرت بقطع أذنى، ولو قلت إن السعر هو خمس فضات أو فضة واحدة لأمرت أيضاً بقطعها، لذلك اقطع لى شحمة أذنى على الفور ودعنى أمضى إلى حال سبيلى.
لم يملك المحتسب نفسه من الضحك على العجوز الذى سخر من ميل المحتسب إلى أخذ الناس بالشبهة، وأساليبه العجيبة فى عقابهم، لكن الضحكات التى تعالت استطاعت أن تنجيه من العقاب الذى توقعه بقطع شحمة أذنه، وتركه المحتسب يمضى إلى السوق ليبيع ويربح رزقه ورزق من يعول.
تجار وبائعو ذلك الزمان خافوا أكثر ما خافوا من حملات المحتسب الذى لم يكن يدخل سوقاً ليفتش فيه عن الأسعار والمكاييل دون أن يخرج بمن يفترسه ممن يغالون فى الأسعار أو يغشون فى الميزان.
وقد بلغ الأمر ببعض المحتسبين حد حمل ميزان دقيق يدخلون به على البائع من هؤلاء، ويراجعون عليه دقة ميزانه، بل وكانوا يستوقفون من يحمل أى سلعة فى يده، ويسألونه عن وزنها وسعرها، فإذا بان فى السعر مبالغة أو فى الوزن غش عادوا به إلى من اشترى منه وعاقبوه.كان زماناً عجيباً فى أحواله، لكنه كان منضبطاً.