بقلم - د. محمود خليل
الوقوف بجبل الرحمة «عرفات» يستدعى من الذاكرة المسلمة خصوصاً، والإنسانية عموماً، المكانة التى يحظى بها الجبل فى حياة الجماعات المؤمنة.للجبل وضعية خاصة فى الديانة اليهودية. فمن فوق صخور جبل الطور تلقى نبى الله موسى تعاليم السماء ووصايا الخالق العظيم لبنى إسرائيل، ثم نزل بالألواح إلى قومه فوجدهم ضلوا من بعد إيمان، عقب أن خدعهم «السامرى» بعجل جسد له خوار، وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى، ليحكم عليه موسى بعدها بالنفى، ويعيد بنى إسرائيل إلى صوابهم.
ومن فوق الجبل أيضاً، انطلق لسان السيد المسيح بموعظة الجبل، بما تحمله من تعاليم سامية ومعان جليلة، تدعو إلى مواساة الآخرين، وتحمّل الأذى، والمحبة الشاملة للبشر، والوداعة وعدم مقابلة الشر بالشر، وغير ذلك من تعاليم رفيعة خلدها الوجدان البشرى.
أما الجيل فى العقيدة الإسلامية فله شأن أى شأن. فداخل الغار القابع بجبل حراء، ظل النبى، صلى الله عليه وسلم، يتأمل ملكوت السماوات والأرض وأوضاع قومه، حتى أتاه أمين الوحى برسالة الإسلام، بما تحمله من قيم وأخلاقيات رفيعة، ومن ثم نزل إلى عرب مكة يدعوهم إلى الرسالة التى سيجدون فيها أنفسهم كبشر، وسيحققون عبرها إنسانيتهم الحقيقية: «قَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ».
جبل «أُحد» يرتبط أيضاً فى الذاكرة الإسلامية بدرس الأخذ بالأسباب والاحتكام إلى قوانين الأرض وتطوير معطيات الدنيا عند خوض المعارك. فالله تعالى يمنح نصره لمن يأخذ بالأسباب، والمسلمون فى «أحد» لم يلتزموا بتعليمات قائدهم النبى، صلى الله عليه وسلم، فلقوا الهزيمة أمام عدوهم، بعدها تعلموا الدرس فتفوقوا، ويوم ظهروا على عرب مكة، نادى أحدهم «اليوم يوم الملحمة» فغضب النبى وقال له: «بل اليوم يوم المرحمة»، ليتعلموا درساً جديداً ملخصه أن إقامة إنسانية الإنسان وحماية حقوقه حتى لو كنت غالباً يمثل جوهراً من جواهر هذا الدين. فالرحمة قيمة مركزية فى الإسلام: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ».
وكما كانت بداية الإسلام على جبل، فقد كان تمام الرسالة أيضاً من فوق جبل، هو جبل عرفات الذى حج النبى، صلى الله عليه وسلم إليه، وأعطى المسلمين وصاياه الأخيرة من فوق ترابه الطاهر، نبههم فيها إلى حرمة الدم، وأن اقتلاع الكعبة حجراً حجراً أهون على الله من قتل نفس بريئة بغير نفس أو فساد فى الأرض، وحرمة الربا وأثره المخرب على اقتصاد المجتمعات المختلفة، ودعاهم فيها إلى حماية حقوق المرأة، والمساواة بين البشر.
الجبل له حكاية فى كل دين من الأديان السماوية، وفى وديان الجبال وقع العديد من الأحداث الفارقة فى تاريخ كل دين، فقد احتضن وادى طوى ذلك النداء القدسى لموسى بأن يخلع نعليه استعداداً لتلقى التوجيه السماوى له بالذهاب إلى فرعون، وفى وادى حنين تمكن النبى، صلى الله عليه وسلم، من مواجهة عرب هوازن وثقيف الذين خططوا للانقضاض على المسلمين بعد فتح مكة.
الجبل له فى كل دين «حكمة بالغة وقوة مقتدرة».