بقلم: د. محمود خليل
قبل أيام من صعود روحه الشريفة إلى بارئها، زار النبى، صلى الله عليه وسلم، مقابر الشهداء من أصحابه بالبقيع، عاد بعدها إلى بيته، وبدأ يشعر بالتوعك والوجع، وتحكى أم المؤمنين عائشة هذا الموقف، قائلة إنها كانت تجد فى رأسها صداعاً، حين قفل النبى عائداً، فدخل عليها وهى تصيح: وا رأساه، فرد عليه الصلاة والسلام: بل أنا وا رأساه، ثم دخل مع عائشة فى حوار حول الموت.
قال لها النبى ماذا لو متِ يا عائشة قبلى، فأكفنك وأصلى عليك وأستغفر لك؟، فردت أم المؤمنين بما معناه: لو أننى مت إذن لجئت ببعض أزواجك وأعرست معها. هذا المشهد الذى تلا زيارة البقيع يدل على أن فكرة موت النبى، صلى الله عليه وسلم، كانت مطروقة فى أيامه الأخيرة، ولم تكن بعيدة عن أذهان المقربين منه، سواء من أزواجه، أو أهل بيته، أو صحابته المحيطين به. فموته، صلى الله عليه وسلم، لم يأتِ فجأة، بل كان مسبوقاً بالكثير من الشواهد والدلالات.
وكانت عائشة أم المؤمنين الأكثر إدراكاً لهذا الأمر بحكم قرب موقعها منه، صلى الله عليه وسلم.
وعلينا ألا ننسى أنه تلا على المسلمين فى حجة الوداع الآية الكريمة التى تقول «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا»، ففهم الكثير من الصحابة، ومنهم أبوبكر، رضى الله عنهم، أن الرسول ينعى نفسه الشريفة إليهم.
كان المحيطون بالنبى يعلمون أن النبى يقضى أيامه الأخيرة بينهم. وتشير كتب السيرة إلى أن محمداً، صلى الله عليه وسلم، أراد -حين شعر بدنو الأجل- أن يترك وصية تجنّب المسلمين الفتن. وقد وردت قصة الوصية فى إطارين: أولهما إطار خاص بعائشة، رضى الله عنها، وثانيهما إطار عام طرح النبى، صلى الله عليه وسلم، فيه موضوع الوصية أمام الجماعة المؤمنة التى كانت تحيط بفراش مرضه. فى الإطار الخاص بعائشة أشارت أم المؤمنين فى ما تحكيه عن ذلك اليوم العصيب الذى بدأ المرض يطرق فيه باب النبى، صلى الله عليه وسلم، فذكرت أنه طلب كتابة «عهد» للأمة من بعده.
وقد قدمت عدة روايات لهذه الواقعة، منها أن النبى، صلى الله عليه وسلم، قال لعائشة بعد أن اشتكى لها الصداع: «لقد هممت أن أرسل إلى أبيك وأخيك فأقص أمرى وأعهد عهدى، فلا يطمع فى الدنيا طامع».
وفى رواية أخرى جاءت على لسان عبدالرحمن بن أبى بكر: «لما ثقل رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال لعبدالرحمن بن أبى بكر، رضى الله عنهما: ائتنى بكتف أو لوح حتى أكتب لأبى بكر كتاباً لا يختلف عليه، فلما ذهب عبدالرحمن ليقوم قال: أبى الله والمؤمنون أن يختلف عليك يا أبا بكر».
تريد هاتان الروايتان التأكيد أن النبى، صلى الله عليه وسلم، أراد أن يعهد بالحكم من بعده إلى أبى بكر الصديق، رضى الله عنه، وهو أمر يصعب معه تصديق أن ابنى أبى بكر «عائشة وعبدالرحمن» رضى الله عنهما، لم يسعيا إلى تمريره وتفعيله فى الواقع، والشك فى هذه الروايات وارد.
فلو كانت صحيحة كما تذكر كتب السيرة لسارع الاثنان إلى تلبية طلب النبى وكتابة الوصية. فعائشة، رضى الله عنها، كانت تحب أن يذهب الأمر إلى أبيها بعد وفاة النبى. ومؤكد أنها لم تكن لتفوت هكذا فرصة دون أن «تشرعن» عملية انتقال «الأمر» إلى أبيها وقد كان جديراً به.