بقلم: د. محمود خليل
مات جمال عبدالناصر، رحمه الله، وتولى أنور السادات حكم البلاد، ليُقدم نموذجاً مختلفاً فى التعامل مع الفلاحين المصريين، بدأت ملامحه فى التطور بعد نصر أكتوبر، ثم انتفاضة الخبز فى 18 و19 يناير 1977.
الحدث الأخير كان فارقاً للغاية فى تجربة حكم «السادات»، فقد راعه انتفاض الشارع المصرى «القاهرى» ضده بهذه الصورة، خصوصاً أنه الزعيم الذى انتصر فى أكتوبر، وحلحل موضوع تحرير أرض سيناء، ويبدو أن هذا التململ من القاهرة والحضريين عموماً جعله يلقى بثقله نحو الريف المصرى، ويسترجع من جديد تاريخ نشأته فى قرية «ميت أبوالكوم».
فى كتابه «البحث عن الذات» تجد «السادات» شغوفاً بالحديث عن قريته، وعادات الطفولة فيها، بل والعادات الشعبية السائدة بداخلها، مثل ذبح بطة أو وزة أو دجاجتين، احتفالاً بليلة القدر. والأهم أنه قدّم سيرته الذاتية بعبارة: «أنا أنور السادات فلاح نشأ وتربى على ضفاف النيل، حيث شهد الإنسان مولد الزمان».
صورة الفلاح كانت إحدى الصور التى أراد الرئيس السادات أن يرسم نفسه فيها أمام الجمهور المصرى، الفلاح بكل ما يميزه من أيقونات: الجلباب، العباءة، العصا، وحتى «البيبة»، فالبيبة كانت فى طفولة «السادات» مظهراً من مظاهر الأبهة الريفية لا ينعم بتدخينها سوى الأكابر من أهل القرى.
اهتم «السادات» منذ تمكنه من القضاء على خصومه السياسيين (مايو 1971) بالحديث عن أخلاق القرية، لكن اهتمامه بإبراز نفسه فى صورة الفلاح الحريص على هذه الأخلاق تعاظم عقب أحداث 18 و19 يناير، وكأنه أراد التفرقة بين القرية وناسها وما يحكمهم من منظومة أخلاقية، وأخلاق المدينة التى لا تعرف «العيب»، ولا تفهم الفارق بين الخصومة العامة والأخرى الشخصية، التى لا تتوانى عن الخوض فى سيرة الأسر وأفراد الأسر.
ولو أنك راجعت الحوارات التى كانت تجريها الإعلامية الراحلة «همت مصطفى» مع الرئيس السادات أواخر أيامه، رحمه الله، فستجد أنها كانت تتم داخل قريته «ميت أبوالكوم»، يجلس فيها الرئيس، مرتدياً الجلباب والعباءة ويمسك عصاه وبيبته فى يده، ويسترسل فى الحديث الهادئ المسترخى.قام «السادات» أيضاً بخطوة لافتة نحو قريته ميت أبوالكوم، حين وضع حجر الأساس لمشروع تطوير وتنمية قرية «ميت أبوالكوم»، وتم تمويل المشروع بتبرع قدمه «السادات» من عائد كتابه «البحث عن الذات» وقيمة جائزة نوبل عام 1978.
وهى لفتة تلقفها الإعلام حينذاك، وانطلق يحكى عن الرئيس الأصيل الذى لم ينسَ مسقط رأسه بعد أن وصل إلى قمة السلطة فى مصر.ولست أدرى هل يمكن تفسير التفات «السادات» أواخر عمره إلى قريته ميت أبوالكوم، بما يعكسه من رغبة دفينة لدى الناجح، حين يميل إلى تكريس الإحساس بالنجاح داخله أم لا؟
فبعض الناجحين أو المتحقّقين داخل ربوع القاهرة أحياناً ما يميلون إلى العودة إلى مسقط رأسهم من حين إلى آخر (سواء كانت قرية أو عشوائيات المدن) ليبصروا نظرات الإعجاب فى أعين البسطاء، الذين يبهرهم أقل درجات النجاح التى يحقّقها واحد عاش فى وسطهم ذات يوم، فما بالك بالإعجاب حين يصل هذا الشخص إلى قمة السلطة فى البلاد.