بقلم - محمود خليل
أطلق المسلمون على عمرو بن هشام وصف «أبى جهل». الغرض الأساسى من الوصف تمثل فى «التسفيه» وليس وصف واقع الرجل. وقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يدعو الله بأن يعز الإسلام بأحد العمرَين: عمرو بن هشام أو عمر بن الخطاب، وإن لم يكن للرجل ثقل محسوس داخل المجتمع المكى لما دعا النبى ربه بذلك.
اختلفت نظرة عرب مكة إلى عمرو بن هشام كلياً عن نظرة المسلمين إليه، إذ رأوا فى الرجل عين الحكمة وجوهر التفكير الرشيد فلقبوه بـ«أبى الحكم». كل كان يقيس الأمر من زاويته. فعرب مكة كانوا يرون فى «ابن هشام» قيادة متميزة فى إدارة الصراع مع النبى صلى الله عليه وسلم ومواجهتهم للانقلاب الذى يمكن أن يحدث فى المجتمع المكى إذا تغلغل الإسلام فى أرجائه، خصوصاً على مستوى أدوار الطبقات المختلفة التى تتفاعل بداخله، وقد اتبع سياسة ذكية فى إدارة هذا الصراع، لكنها لم تنجح فى النهاية، لأنه لم يستطع أن يفرق بين دين مؤيد بوحى السماء، وفكرة أرضية تستهدف إحداث تغيير فى الأوضاع المستقرة للمجتمع المكى.
اعتمدت سياسة عمرو بن هشام فى إدارة الصراع مع النبى صلى الله عليه وسلم على المزاوجة بين أداتين، الأولى هى الاغتيال المعنوى، والثانية هى الاغتيال المادى.
قسّم عمرو بن هشام أتباع النبى فى عدة فئات: فئة أصحاب الشرف والمنعة، وفئة التجار، وفئة المستضعفين، وابتكر أسلوباً لمواجهة أى فرد يعلن إسلامه فى سياق هذه الفئات الثلاث.
إن سمع برجل قد أسلم له شرف ومنعة أنَّبه وخزاه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنضعن شرفك. إنها آلية الإهدار بما تحمله من معانى التسفيه والتوبيخ والتأنيب، بما يؤدى إلى الاغتيال المعنوى للفرد، لتهتز مكانته بين أهله، ويصبح مدعاة للازدراء والاحتقار من قومه.
ولم يكن يسمع عن تاجر أسلم إلا وذهب إليه وقال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك. وهذا شكل من أشكال الاغتيال المالى، وكان «ابن هشام» يوجه سهمه لأصحاب الأعمال، فيضرب نشاطهم التجارى، ويوقف حالهم، ويدخلهم فى دائرة الإفقار.
أما الضعفاء من العبيد والموالى فاعتمد معهم آلية التعذيب، فكان الضعيف من هؤلاء يؤخذ بمجرد أن يعلن إيمانه ليضرب ويهان، ويحرم من الطعام والشراب، إلى حد أن المسكين من هؤلاء لم يكن يقوى أن يستوى جالساً. وقد وصل العذاب بهم إلى مرحلة استجابوا فيها لمعذبيهم، وأعلنوا رجوعهم إلى عبادة الشرك، رغبة فى النجاة من هذا العذاب المستطير، وحين بلغ نبؤهم النبى صلى الله عليه وسلم نزل قرآن من السماء يعفى المكره عندما يعلن الشرك بلسانه فى حين يكون قلبه مطمئناً بالإيمان.
وفى مواجهة آلة القهر العاتية التى وظَّفها عمرو بن هشام فى مواجهة كل صنوف المسلمين من أبناء المجتمع المكى لم يكن أمام المستضعفين منهم إلا هذه الحيلة التى تمكنوا بها من مقاومة الرجل، فأطلقوا عليه «أبا جهل».