بقلم - محمود خليل
تستوقفنى كثيراً رواية «العمامة والقبعة» للمبدع صنع الله إبراهيم، من زاوية اشتباكها مع تفاعلات الحياة اليومية أيام الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801).
بطل الرواية هو أحد تلامذة عبدالرحمن الجبرتى، المؤرخ المصرى الشهير، يقدم المؤلف -من خلال سرد تجربته خلال سنوات الحملة- صورة للحياة اليومية للمصريين: طبيعة البيوت وخرائطها، شكل الدكاكين والبائعين، التجار وسعيهم المحموم نحو الثروة، المشايخ وولعهم بالسلطة لتحقيق النفوذ والمال، طلاب العلم وأحلامهم وطموحاتهم، المواطن البسيط وهمه بخبز يومه، لعبة الاعتداء على الحلقة الأضعف التى يجيدها البسطاء حين يصعب عليهم مواجهة المتسلط بقدرته، فيستديرون إلى بعضهم البعض ليأكل القوى فيهم الضعيف.
الأخطر فى رواية «العمامة والقبعة» الوصف الذى قدمه الروائى الكبير لحالة الدفء التى كان ينعم بها المصريون فى ذلك الزمان. نعم كانوا يواجهون محتلاً غاصباً يقتحم عليهم بيوتهم ودور عبادتهم ودكاكينهم، ينهب ويسلب، ويمرر عيشهم، غلاء مستطير، وشح فى السلع المتاحة دفعت الناس إلى تخطف العيش من فوق أقفاص الفرانين، مستعمر يقتل بالشبهة رغم ما يدعيه من احتكام لقواعد العدالة والإنسانية، تفاعلت صور مختلفة من المرار فى حياة الناس يومئذ، ورغم ذلك كانت الحياة دافئة، وكان السر الأكبر فى دفئها هو السلاسة التى سيطرت على نمط الحياة.
بأعلى درجات السلاسة انتقل بطل الرواية من الصعيد إلى القاهرة، بعد أن قضت أسرته فى الطاعون. وصل إلى محروسة مصر المحمية (القاهرة) فتلقفه الشيخ عبدالرحمن الجبرتى، ووسّع له مكاناً فى منزله ليعيش فيه ويعمل معه، فمهارة الكتابة والنسخ كانت توفر فى ذلك الوقت العديد من فرص العمل لصاحبها، وقد أضاف إليها إجادة اللغة الفرنسية التى تعلمها من أحد التجار الذين عمل لديهم، وعندما دخل الفرنسيون مصر لم يجد غضاضة فى العمل مع عدد من المصريين الآخرين داخل المجمع العلمى الذى أنشأته الحملة، تصادق مع مصرى مسلم وآخر مسيحى فى مثل سنه، ونسج علاقة خاصة مع إحدى الفرنسيات المتزوجة من أحد ضباط الحملة وتعمل معه فى المجمع.
كل شىء فى الحياة يمضى بسلاسة، ودون عقد. يجوع فيأكل المتاح، يظمأ فيشرب مياه النيل التى أثبت علماء الحملة أنها مفيدة للإنسان ومغذية للجسم، يشعر بالحاجة إلى امرأة يجد أمامه جارية أستاذه، فيأتيها بلا مشكلات، ثم يعود إلى فراشه لينام استعداداً لرحلة عمل جديدة خلال النهار، يقضى الليل بعدها جالساً على أحد المقاهى، يتابع المنشدين، والغوازى، ويتسامر مع أصدقائه فى الشأنين العام والخاص، يفضفض كل منهم للآخر بلواعج نفسه وأشواقها وصور استمتاعها بالحياة.
كل شىء كان دافئاً بفعل السلاسة التى تمضى بها الحياة، رغم الفقر والقهر والأوبئة، يدخل غازٍ إلى البلاد فيستقبله الناس بالفرح فى البداية، ويتأملون فيه أن يكون خيراً من غازٍ سابق، يقاومونه لحظة أن يدركوا أنه مثل غيره حتى يطردوه، ليستقبلوا بديلاً جديداً يتوسمون فيه العدل، حتى يدركوا حقيقته، وحين يتعبون من التفكير يلوذون بحقيقة أنه لا راحة فى الدنيا فيرتاحون.
رغم ما واجههم من تحديات عاش المصريون أيام الحملة الفرنسية بشعار: «غد بظهر الغيب واليوم لى.. وكم يخيب الظن فى المقبل».. جوهر الدفء يرتبط بانتزاع فكرة القلق على المستقبل من الحياة والعيش بمعادلة: «اكفنا خبز يومنا