بقلم - محمود خليل
كان «خالد» يجلس أمام شاشة التليفزيون، حين شاهد أحلام الأحمدى تقف تحت قبة المجلس الموقر تدافع عن إنشاء جامعات خاصة يلتحق بها أبناؤنا الذين لا يلحقون بقطار تنسيق الجامعات الحكومية، بدلاً من السفر إلى الخارج، وإنفاق مال المصريين خارج مصر، استندت فى كلامها إلى إحصائيات عن عدد الجامعات فى مصر منسوبة إلى عدد السكان، وقارنت الأوضاع لدينا بدول أخرى أقل منا فى السكان وأكثر منا فى عدد الجامعات.
تبسم «خالد» ضاحكاً من قولها وفصاحة اللسان وبلاغة الكلام الذى تغرد به «أحلام»، جال فى خاطره صورة حمدى السيد حين حدثه من سنين عن هذا النوع من الجامعات وكيف اعتبر الأمر نكتة، ها هى النكتة تتحقق على يد زوجته النائبة الوزيرة، ثم قفزت فى مخيلته صورة الهانم «جشم آفت» زوجة الخديو إسماعيل، حين كانت تدعو الأسر إلى إرسال بناتها للتعليم، والناس مترددة، تخاف من الدفع ببناتهن إلى التعليم. ترحّم على «محمد على» جد الخديو إسماعيل الذى جعل المجانية أساس التعليم عندما بدأ رحلته فى إنشاء المدارس، ورثى لحال الحفيد الذى آمن مثل جده بالتعليم، لكنه ورط نفسه فى ديون دفعت عراب التعليم فى زمانه «على باشا مبارك» إلى إبطال مبدأ المجانية الكاملة، وتكليف الأهالى بالإنفاق على تعليم أولادهم، وبادر بالفعل إلى إنشاء مدرستين بمصاريف شهرية.
الزمان يتغير، والأحوال تتبدل، وحرام الأمس بات حلالاً زلالاً اليوم. وها هى أحلام الأحمدى التى زحف العجز إلى خريطة وجهها فلم تعد أنثى عنكبوت أو حية بل «عنقاء» خرجت من رحم الأساطير تدعو إلى التعايش مع الزمن الجديد، باتت هى وهذا الساحر الصغير المسمى «الموبايل» أبرز ملامح الوقت. تعجب وهو يسمع عراكات أحفاده مع أبنائه لاقتناء هذا «الصغير»، واندهش حين وجد نفسه فى يوم غارقاً فى بحر من الرنات المتصارعة، يوم اجتمع الأخوان أسامة وعبدالعظيم وزوجتاهما وأولادهما على الإفطار ببيت العائلة فى أحد أيام رمضان.. جاءه «مازن» فى أحد الأيام يقول له:
- مازن: جدو.. عاوزك تقول لبابا يجيب لى موبايل جديد.. أنا داخل ثانوى ومن حقى جهاز حديث.
- خالد (ضاحكاً): وهل الجهاز الحديث مقرر عليكم فى الثانوى؟
- مازن: أنا ما بضحكش يا جدو.. الجهاز الحديث ممكن يتصل بالإنترنت.. دى شبكة كبيرة عليها كتب ودراسات.. عارف يا جدو.. كل كتب التاريخ اللى عاوزها ممكن تلاقيها عليها.
- خالد (باستغراب): ألاقيها إزاى.. معقول؟
- مازن: والله يا جدى.. خلاص إحنا فى زمن الموبايل.
- خالد: شىء خطير.. زمان عباس بن فرناس حلم بالطيران وفشل.. ومن بعده نجح الغرب.. وعفاريت الجن فى «ألف ليلة وليلة» كانت تنقل البشر فى لمح البصر.. بعدها الطائرات أصبحت حقيقة.. والراديو والتليفزيون كلها أحلام تحولت لحقيقة.
- مازن: وجهاز كشف الكدب.. فاكر يا جدى لما حكيت لى حكاية التنين اللى بيكشف الكداب فى حكايات «ألف ليلة وليلة».
- خالد: كل شىء يتغير من حولنا.. لكن يبقى عقلنا على ما هو عليه.. فضيلة الشيخ حكى لى أن الناس نظرت إلى الراديو عند اختراعه كعلامة من علامات الساعة.. قالوا «الحديد يتكلم».. لكن تعرف اختراع الراديو كان علامة على اقتراب ساعة زوال النظام الملكى.. مثل التليفزيون الذى كان علامة على نهاية عصر الاشتراكية.. يا ترى الموبايل.. هذا الساحر الصغير.. علامة على قرب ساعة من؟
بينما كان الساحر الصغير يزحف ويظهر فى يد الجميع ليعلن عن دخول المصريين عصر الاتصالات، كانت سوق العقارات هى الأخرى تنتعش، وتتمدد معها «مؤسسة الأحمدى» وتزيد تغولاً فى الواقع، فقد كان لها النصيب الأكبر من السوق بحكم المكانة التى تشغلها الوزيرة «خدامة الهانم الكبيرة». حاول «عبدالعظيم» ذات مرة أن يناور ويترك إدارة شركة الأدوية ليندلق إلى سوق العقارات أو يضع قدماً فى سوق الاتصالات، لكن «نجلاء» رفضت، وقالت له يومها: «لك حدود حركة يتوجب ألا تتجاوزها». تعشم «عبدالعظيم» أن ينال جائزة بعد أن باتت «نجلاء» تختزن ذكراً له فى أحشائها، لكن العنقاء الصغرى لم تمنحه الفرصة. لقد بدا الاثنان وكأنهما فى مباراة يحاول كل منهما فيها استغلال الآخر، لكن «نجلاء» كانت الأعلى كعباً فى كل المواجهات.