بقلم: د. محمود خليل
حدثتك عن القهوة والفتنة التي ارتبطت بها بعد أن اختلفت فتاوى المشايخ حول حلها أو حرمتها، وكيف أن الجدل تم حسمه لصالح إباحة هذا المشروب الذي اصبح جزءاً من حياة المصريين، ثم ظهر "التبغ" فعشقه الكثيرون، وأصبح تدخين الشُبك من العادات الأساسية لدى الكثيرين، وكان ذلك أوائل القرن السابع عشر الميلادي.
اختلفت وجهات نظر المشايخ حول تدخين "الشُبك" كما اختلفت حول القهوة، وقد كتب أحد الولاة في ذلك الوقت فرماناً بتحريم التدخين، وكان يحكم على من يتم القبض عليه وهو يدخن أن يلتهم حجر الشبك ومحتوياته المتلهبة، ورغم ذلك لم يتوقف الناس عن التدخين، ثم ظهرت أنواع جديدة من الكيوف التي كان الجدل محسوماً حول تحريمها، وشملت المخدرات بأنواعها، وبقي البن والتبغ متربعين على عرش الكيوف المقبولة لدى غالبية المصريين.
الشبك -بضم الشين- هو أقدم وسيلة تدخين، وقد عرفها المصريون، بعد دخول الترك إلى مصر، وهو أشبه بالغليون أو "البايب"، وإن تميز الشبك بقصبته الطويلة التي كانت تُصنع من الغاب، وقد تطورت أساليب التدخين بعد ذلك، فانتشرت الجوزة والشيشة (النارجيلة)، سواء داخل المقاهي أو في البيوت.
أما السجائر فقد عرفها المصريون خلال الحملة الفرنسية على مصر (1798- 1801). واعتمدوا في البداية على "السجاير اللف"، ثم ظهرت السجائر المصنعة -بماركات مختلفة- والمعبأة في علب (محلي ومستورد).تذكر الأجيال التي عاصرت حقبتي الستينات والسبعينات أن "السجاير اللف" كانت شائعة في مصر إلى جوار السجائر الجاهزة، وقد انتشرت بدرجة أكبر خلال فترة السبعينات، حين شحت السجائر المصنعة، واضطر البعض إلى الاعتماد على "الدخاخني" في شراء التبغ وورق البفرة ولف السجاير، مثلما اعتمد الأجداد على "الشبكشي" أيام تدخين "الشبك".
المصري بطبيعته لا يستطيع أن يستغني عن "كيفه" أو "مزاجه"، وهو ليس بدعاً من البشر في ذلك. فكل شعب وله كيفه الذي لا يستطيع الابتعاد عنه.
وقد كان المدخنون من بني هذا الشعب يقفون طوابير في السبعينات للحصول على علبة سجائر "سوبر"، ومن لا يستطيع كان يلجأ إلى لف التبغ. أيامها كانت مصر في حالة حرب، خرجت مكسورة من نكسة 1967، وخاضت بعدها معارك استزاف العدو، ثم بدأت تستعد لحرب أكتوبر، وبالتالي كان أمر اختفاء بعض السلع، ومن ضمنها السجائر، مبرراً ومنطقياً.
في غير هذه الحال يشعر المصري بالضجر حين يغيب عنه "كيفه المفضل" الذي يعتدل به "مزاجه"، ويزداد ضجره حين يدفع فيه أكثر من ثمنه الطبيعي، لكنه يدفع مضطراً، لأن عدم وجود "الكيف" يعد المصدر الأكبر والأخطر لعكننة مزاج المصريين.
لذا فقد حرصت الحكومات المتعاقبة منذ العصر العثماني/ المملوكي، ومصر العلوية، ومصر ثورة يوليو، على جعل القهوة والسجائر في متناول الجميع، من منطلق وعيها بأن المصري لا يكدره شىء قدر "تعكير مزاجه" أو حرمانه من الاسترخاء مع فنجان القهوة الذي تظلله سحائب الدخان.