في نهاية الرحلة عاش نجيب محفوظ فكرة "التصالح مع الموت". في أحد الحوارات الأخيرة للكاتب الكبير تحدث عن أنه بات يحب الموت، مثلما أحب الحياة، فالموت في نظره هو الحقيقة الكبرى في الحياة، والنهاية الحتمية لكل حي، لذا فعلى العاقل أن يتصالح معها، ويعد لها عدتها، بل ويتشوف لما وراءها.
فالإنسان روح وجسد، الجسد للتراب، أما الروح فباقية، لأنها من الخالق العظيم: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين".
في رواية "حديث الصباح والمساء" تناول نجيب محفوظ "ثنائية الولادة والموت" كقانون أساسي من قوانين الحياة، جيل يظهر وآخر يختفي، نور يسطع وآخر ينطفئ. تظل قصص الحياة متكررة، وحتى بشرها يبدون متكررين، على ما بينهم من خلاف أو اختلاف.
كما كانت روح نجيب محفوظ متصالحة مع الحياة ومتشوقة إليها، كانت متصالحة في نهايات الرحلة مع الموت، ومتشوفة إلى ما وراء الحياة، بل يمكن القول بأن "محفوظ" بنى جسراً في العديد من رواياته بين الحياة والموت، فأخذ من تأملاته فيما بعد الحياة أداة لإثراء وصفه للحياة في بعض رواياته وقصصه.
تجد ذلك حاضراً -على سبيل المثال- في قصة "السماء السابعة"، وهي واحدة من أورع القصص المنسية لنجيب محفوظ. والقارئ لسطورها قد يظن للوهلة الأولى أن الكاتب يعالج قضية "تناسخ الأرواح"، من خلال صعود الروح إلى السماء، ثم هبوطها إلى الأرض عبر شخصيتين أساسيتين، هما شخصية "رؤوف عبد ربه" و"عانوس"، لكن المتعمق في أحداثها سوف يجد نفسه أمام فكرة "تناسخ" أو "استنساخ" الخير والشر في الحياة.
مشاهد محاكمة ممتعة رسمها نجيب محفوظ لشخوص الرواية أمام الحكيم "آبو"، يتحدد على أثرها مصير الشخص ما بين الصعود إلى السماء الثانية أو العودة إلى الأرض.عبر "نجيب" محفوظ إلى ما وراء الحياة أيضاً في رواية "أمام العرش"، والتي تجد فيها استدعاء سريعاً لكل حكام مصر بدءاً من مينا موحد القطرين، وحتى أنور السادات، مروراً بسعد باشا زغلول، ومصطفى باشا النحاس، والرئيس جمال عبد الناصر، وغيرهم.
أمام العرش كانت تذكر إنجازات وإخفاقات هؤلاء الزعماء، وما تركوه من أثر في حياة المصريين، في استعادة للثنائية المعتادة للخير والشر التي تنسج أحداث الحياة.الموت في نظر نجيب محفوظ يمكن أن يقع بالحياة، والحياة يمكن أن تتحقق بالموت. والسر في الأول والآخر هو القلب.
في بداية حكاية عاشور الناجي –من رواية الحرافيش- كتب الراحل نجيب محفوظ جملة سخية بالمعاني، مشحونة بالدلالات، جاءت على لسان الشيخ "عفرة زيدان" يقول فيها: "تدفن القلوب في ظلمة الإثم".
القلب سر الحياة ومصدرها، والمايسترو الذي ينظم إيقاع حركة الجسد ككل. توقف دقاته وسكون نبضاته يعني الموت، لكن عبارة نجيب محفوظ تقول غير ذلك، فقلب الإنسان قد يموت ويُدفن، ومع ذلك يظل الجسد حياً، أو يصبح صاحبه "ميتاً بالحياة"، كما يصف المثل المصري صنفاً معيناً من البشر.
توقف القلب عن العمل لدى "الميت بالحياة" يعني ببساطة تحوله إلى فصيلة أخرى غير فصيلة البشر، وإن كنا لا نعلم على وجه الدقة أسرار قلوب خلق الله –غير الإنسان- وهل تحس وتشعر وتميز بين الخير والشر، كما يفعل القلب لدى الإنسان؟ طريق أساسي يؤدي إلى إمراض القلب ثم موته.
إنه طريق الإثم. كل البشر يقعون في الآثام، بل بإمكانك أن تقول إنهم جميعاً شركاء في الإثم، منهم من يتنبه ويفيق فيستغفر خالقه ويتوب، ومنهم من يواصل غيه، ويساير هوى نفسه، فيغريه الإثم بالمزيد من الآثام، ويظل كذلك حتى يمسي الإثم جزءاً منه، ومن يطول به السير في طريق يصعب عليه العودة منه.
الرحلة تبدأ بارتكاب الإثم جرياً وراء مغنم أو مطمع أو مصلحة أو فائدة أو لذة معينة، وبمرور الوقت يمسي ارتكاب الإثم بلا هدف، فصاحبه يفعله لأنه أصبح جزءاً من تركيبته، سواء حقق من خلاله نتيجة أو لم يحقق.
لقد صفا قلب نجيب محفوظ، فعاش حياته رائقاً.. وفي الختام سجد للحق في هدوء.