بقلم - محمود خليل
لا يخلو زمان أو مكان من «مظاليم» يقول التحليل المتأنى لتجربتهم الإنسانية إنهم لم ينالوا من الدنيا ما يستحقون، وإنهم غُبنوا فيها لحساب غيرهم بطرق ودرجات مختلفة.
يعانى المظاليم نوعاً من الغبن يعيشون رحلتهم فى الحياة بمرارته، قد يتصالح بعضهم مع الأمر، فتقل حدة المرارة فى حلوقهم، وتتساوى أمامهم الأشياء، وقد يتمكن الشعور من بعضهم فيرهقهم فى الحياة أيما إرهاق.
لعلك تعرف الشاعر محمود أبوالوفا صاحب قصيدة «عندما يأتى المساء». عاش الراحل الرقيق «مبتور الساق» من سن العاشرة حتى توفاه الله، هو الرجل الذى عرفته شوارع القاهرة بعكازه الذى يسير عليه، وجلبابه البائس. ما أكثر ما استغل من حوله مواهبه وترجموها إلى مكاسب، فى وقت كان المسكين لا يجد فيه قوت يومه.
توسط له الشاعر «حافظ إبراهيم» ليعين موظفاً فى وزارة الأوقاف، كما يحكى عبدالمنعم شميس فى كتابه «شخصيات من مصر»، لكن منظره لم يعجب الباشا الوزير وقتها «نجيب الغرابلى»، فتلكأ فى الأمر، استغل أحد صحفيى ذلك الزمان «أحمد فؤاد الصاعقة» الموقف، وعزم الشاعر «محمود أبوالوفا» على المقهى وطلب منه أن يكتب قصيدة يهجو فيها الوزير، ووعده بدفع جنيه كامل نظير كل بيت، ففعل المسكين، ونال عشرة جنيهات مصححة مقابل عشرة أبيات سب وشتيمة فى الوزير، أخذها «الصاعقة» وذهب إلى الباشا يستأذنه فى نشر القصيدة فى صحيفته، فساومه «الغرابلى» عليها ودفع له 100 جنيه نظير عدم نشرها.
رغم موهبته الشعرية الكبيرة فإن شعراء طبقة الحكم فى عصره عاملوه بأعلى درجات الدونية، فعل معه أحمد شوقى ذلك، حين كتب المسكين أبوالوفا قصيدة يمدح فيها موهبة شوقى وأحقيته بإمارة الشعر، رشحها حافظ إبراهيم لتكون القصيدة الرئيسية التى تلقى فى الحفل، لكن «شوقى» رفض أن يتصدر المبتور الفقير بجلبابه البائس مشهد تنصيبه أميراً للشعر العربى، وطرده من الحفل، ثم اعتذر له بعد ذلك.
هل كان سؤال «أبوالوفا» فى قصيدته عندما يأتى المساء: «متى نجمى يظهر؟» يصدر من فراغ. القارئ لحياة الرجل يجد فى السؤال تلخيصاً لحياته التى عاش يبحث لنفسه فيها عن موضع لعكازه. لك أن تتخيل أن الرجل عاش عمره كله فى بيت قديم متهالك داخل زقاق ضيق خلف جامع «العمرى» بباب الخلق، كان يعانى الأمرين وهو يصعد سلالمه المكسورة، وظل على تلك الحال حتى عام 1978، حين ترجى المسئولين فى محافظة القاهرة منحه شقة فى «الإسكان المتوسط» بالعمارات التى تبنيها الحكومة، واستجيب لطلبه بعد أن كرمه الرئيس السادات. وبعد عام واحد من دخوله العتبة الجديدة توفاه الله عام 1979.
المشهد الأخير فى حياة «أبوالوفا» لم يكن يقل عبثية عن مشاهد الغبن التى عاشها فى حياته. فبعد وفاته قررت وزارة الأوقاف التى تمنى بالأمس تعيينه موظفاً فيها كى يقيه المرتب مهانة مد اليد، بادرت إلى تكريمه ببناء مسجد فاخر باسمه فى القرية التى شهدت ميلاده قرب «المنصورة».