بقلم: د. محمود خليل
فى الماضى، اعتاد المصريون فكرة هجرة بعض الريفيين إلى القاهرة، والسكن على تخومها أو داخل الأحياء القديمة منها، لكن خلال فترة الثمانينات وما تلاها، ظهر نوع جديد من الهجرة العكسية بسبب أزمة السكن.
العديد من القرى المزروعة التابعة لمحافظة الجيزة شهدت زحفاً سكانياً يرتكز على فكرة تجريف الأرض الزراعية، وبناء العمارات والأبراج السكنية الشاهقة فوقها.
تجد نماذج لذلك فى قرى صفط اللبن، وكفر طهرمس، وكفر غطاطى، ومناطق فيصل والعمرانية، وغيرها.
زُرعت الأرض الممتدة فى هذه المناطق وغيرها بالأبراج، والشقق الفارهة، وأحياناً الفيلات، ونشأت حولها البيئات المعتادة للعمائر التى تضم شققاً صغيرة، وأحياناً غرفاً، وبيعت السلعة العقارية على حسب القيمة (الموقع والمساحة)، وضمت هذه المناطق الناشئة أفراداً من مستويات اقتصادية واجتماعية مختلفة، أو بعبارة أخرى قدمت مسرحاً لهجرة كافة الأطياف الحضرية إلى مناطق كانت فى الأصل ريفية قروية.
يمثل شارع فيصل مسرحاً تستطيع أن ترصد من خلاله بدايات عملية تقطيع الأوصال التى عاشها المصريون بدءاً من النصف الثانى من السبعينات، حين كان الشارع يمثل امتداداً زراعياً لشارع الهرم ويطل على ترعة، فرحلة الشارع بدأت بعد الحرب وانطلاق عملية السلام، لتحوله من بقعة خضراء ممتدة إلى واحد من أعقد شوارع الجيزة على مستوى الزحام.
ظل شارع فيصل حتى أوائل السبعينات بقعة خضراء تضم فيلات وقصور بعض باشوات وبهوات ما قبل يوليو 1952، ثم بدأ الزحف الأسمنتى عليه بإرادة سياسية، وجدت صدى لدى مُلاك الأراضى الزراعية هناك، صغاراً كانوا أم كباراً، فوضعوا أيديهم فى أيدى الحكومة لقتل الخضار وتحويله إلى سواد أسفلتى، انضمت إليه كل القرى القريبة، بدءاً من كفر طهرمس وانتهاء بكفر غطاطى.
حلم الحصول على «شقة فى فيصل» داعب الكثيرين ممن عادوا بمبالغ معقولة من العمل فى دول الخليج، تمكّنهم من شراء شقة تمليك، أو ادخروا مبلغاً يساعدهم على تأجير شقة بـ«الخلو»، وكل على حسب طاقته.
أعداد مهولة تدفقت على «فيصل» حتى ابتلعت كل شبر فيه، وشجع هذا الإقبال والتكاثر السكانى الكثير من أصحاب المشروعات والمحال التجارية والعيادات وخلافه على وضع أقدامهم فى الشارع، ومع كثرة الحركة والنشاط فيها بات محطة أساسية للميكروباصات والباصات، وتزاحمت به السيارات بسبب موقعه الحيوى كممر إلى العديد من المناطق المهمة بالجيزة والهرم وأكتوبر والرماية وغير ذلك، ثم دخلت التكاتك على الخط فأغرقته.
شوارع وحوارى أزقة مصر القديمة لم تكن عشوائية إلا فى مبانيها، لكنها كانت شديدة الانتظام فى ثقافتها التى وصفتها لك بـ«ثقافة الأكل فى طبق واحد»، تعددت فيها الصور الإنسانية يتعاطف فيها كل فرد مع المجموع الذى ينتمى إليه، أما الصورة التى تقدمها لنا تجربة «شارع فيصل» فمختلفة، وتقدم لك صورة للعشوائية الحقيقية التى لا ترتبط بعدم نظامية المبانى، فذلك أمر شكلى، ولكن عشوائية الأداء والسلوك الناتجة عن الخروج عن السيطرة.
لقد أصبح الشتات هو الحكم، فكل يسير فى الاتجاه الذى يريد، أو «عكس عكاس»، وفى هذه الحالة يكون من الوارد التصادم وتقطيع الأوصال، إلا من عصم الله، وقليلٌ مَن هم.