بقلم - محمود خليل
خلافاً لمعاصريه من علماء الدين وخلافاً لمن سبقه منهم أيضاً اعتمد الشيخ محمد عبده على منهجية عقلانية خالصة فى تفسير النص القرآنى. لم يخضع فيها للموروث الفقهى أو التفسيرى لنصوص القرآن الكريم، بل أعمل عقله فى نصوص التراث، ولم يُهدر السياق الذى يعيش فيه ومعطيات العصر الذى يحيا فى ظلاله، وهو يفسر النص القرآنى أو يستخلص منه أحكاماً قد تتفق أو تختلف مع ما خلص إليه فقهاء الموروث الدينى. جعل الإمام العقل أداة لفحص وتحليل الأفكار والمفاهيم التى اشتمل عليها التراث الدينى، فقبِل من بينها ما يوافق العقل والذوق الإنسانى السليم، ونبذ ما يتناقض مع العقل والفهم الصحيح لآيات القرآن الكريم، ذلك النص الذى لا تتناقض شرائعه وأحكامه بحال مع العقل.
وأكثر ما ميَّز المنهج التأويلى الذى اعتمد عليه الشيخ الإمام أنه خلافاً لغيره لم يهمل السياق، فقد جعل من «سياق الماضى» مقدمة أساسية لقراءة واستيعاب التخريجات التأويلية التى خلص إليها فقهاء الموروث، واستند إلى «سياق الحاضر» فى استخلاص الأحكام والتشريعات من النصوص القرآنية، ولم يأبه بمسألة الاتفاق أو الاختلاف مع الاستخلاصات التى خرج بها فقهاء الموروث من ذات النصوص. يشهد على ذلك الاستخلاصات اللافتة والمبتكرة التى خلص إليها الشيخ الإمام فى تأويل الآيات القرآنية المنظِّمة لمسألة الزواج فى الإسلام والتى أعادت الاعتبار إلى المرأة ودافعت عن حقوقها فى مواجهة رؤية موروثة قامت على إهدارها ومحاصرتها وإسقاط حقوقها.
اختلف الشيخ الإمام -بداية- مع المفهوم الذى قدمه فقهاء الموروث للزواج فى الإسلام. ويذهبون فيه إلى أن «الزواج عقد يملك به الرجل بضع المرأة»، يعلق الإمام على هذا التعريف بقوله: «لم أجد فى تعريفات الفقهاء للزواج كلمة واحدة تشير إلى أن ما بين الزوج والزوجة شيئاً آخر غير التمتع بقضاء الشهوة الجسدية، وكلها خالية من الإشارة إلى الواجبات الأدبية التى هى أعظم ما يطلبه شخصان كل منهما من الآخر. وقد رأيت فى القرآن الكريم كلاماً ينطبق على الزواج ويصح أن يكون تعريفاً له، ولا أعرف أن شريعة من شرائع الأمم التى وصلت إلى أقصى درجات التمدن جاءت بأحسن منه، قال الله تعالى: (ومِن آياتِهِ أن خلَقَ لكُم من أنفسِكُم أزواجاً لتسكُنوا إليها وجعَلَ بينكُم مودةً ورحمة)». الرأى السابق للشيخ الإمام يضعنا أمام عقلية نقدية لا تميل إلى حفظ الموروث الفقهى، بل تسعى إلى تحليله وتمحيصه وقياس أفكاره على القرآن الكريم ومتطلبات العصر وتحوُّلاته.
وخلافاً للموروث الفقهى أيضاً تبنَّى الشيخ محمد عبده رأياً فيما يتعلق بمسألة تعدد الزوجات، وأكد أن الشريعة المحمدية أباحت للرجل الزواج بأربع من النسوة بشرط العدل بينهن، وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة، وأن آية: «فانكِحوا ما طابَ لكم من النساءِ» مقيدة بآية «فإن خِفْتُم ألَّا تعدِلوا فواحدة». وقد فنَّد الإمام محمد عبده مزاعم المدافعين عن حق الرجل فى تعدد الزوجات فى أكثر من موضع من كتاباته الاجتماعية، وخلص إلى أن إقرار التعدد فى صدر الإسلام كان مرده الحالة الاجتماعية والظرفية التى عاشها المجتمع المكى، وأن الأوضاع المعاصرة تفرض قراءة مختلفة لمسألة تعدد الزوجات تتسق مع التطور الاجتماعى. يقول الإمام: «وغاية ما يستفاد من آية التحليل -يقصد آية «فانكِحوا ما طابَ لكُم مِنَ النساء»- إنما هو: حل تعدد الزوجات إذا أمن الجور، وهذا الحلال هو كسائر أنواع الحلال تعتريه الأحكام الشرعية الأخرى من المنع والكراهة وغيرهما بحسب ما يترتب عليه من المفاسد والمصالح، فإذا غلب على الناس الجور بين الزوجات، كما هو مُشاهد فى أزماننا، أو نشأ عن تعدد الزوجات فساد فى العائلات وتعدٍّ للحدود الشرعية الواجب التزامها، وقيام العداوة بين أعضاء العائلة الواحدة، وشيوع ذلك إلى حد أن يكون عاماً، جاز للحاكم، رعاية للمصلحة العامة، أن يمنع تعدد الزوجات بشرط أو بغير شرط، على حسب ما يراه موافقاً لمصلحة الأمة».