بقلم - محمود خليل
يحفظ العديد من الأجيال الأغنية التى رددها الأطفال زمان وهم يزفون «خروفاً» اشترته إحدى الأسر للتضحية به بعد صلاة عيد الأضحى. كانوا يسيرون فى مواكب وينشدون: «بكرة العيد ونعيّد.. وندبحك يا شيخ سيد.. ونحطك فى الأروانة.. ونضربك بالخرزانة».. ربما بعض الأطفال فى الأحياء الشعبية يرددون هذه الأنشودة حتى الآن.
قدمت جماعة الإخوان تفسيراً عجيباً لظهور هذه الأنشودة على ألسنة المصريين خلال فترة الستينات، ذهبت فيه إلى أنها اخُترعت اختراعاً قبل إعدام الأستاذ سيد قطب بهدف السخرية، والحقيقة أن هذا الكلام من السذاجة بحيث لا يصمد أمام أى تحليل متأنٍّ، لأن حكم الإعدام تم تنفيذه فى «سيد قطب» -رحمه الله- يوم الاثنين 29 أغسطس 1966 الموافق لـ13 جمادى الأولى 1386 هجرية، ووقتها كان عيد الأضحى على مبعدة ما يقرب من 7 أشهر بتوقيت من عاصروا هذا الحدث. ولو أنك استرجعت فيلم «حياة أو موت» -تدور أحداثه قبل ساعات من عيد الأضحى- فسوف تجد الطفلة الصغيرة الجميلة تمتطى ظهر أبيها وهو يمثل دور «خروف» يعلو صوته بالمأمأة، وهى تقول له «اسكت يا سعد.. اسمع يا سعد.. أنا هقولك كلمة بس ما تمأمأش». وفيلم «حياة أو موت» من إنتاج عام 1954 أى قبل واقعة إعدام سيد قطب بـ12 عاماً.
إطلاق أسماء على الأضاحى عادة مصرية قديمة، فالأطفال كانوا يحبون إطلاق أسماء معينة على خروف العيد، منها سعد أو سعيد أو سيد أو غير ذلك، تماماً مثلما يطلقون الأسماء حالياً على كل ما يقتنون من حيوانات أليفة داخل البيوت: قطط وكلاب وغيرها. وكلمة شيخ التى تسبق اسم الخروف ما هى إلا محاولة لإبراز الوجه الدينى للشعيرة. ولست أجد أية مشكلة فى ذلك، فالتضحية بما أحله الله تعالى من أضاحٍ تمثل استعادة لطقس شديد القدم كان البشر يقدمون فيه قرابين لله تعالى حتى يرضى عنهم. فكرة القربان تجدها حاضرة فى الآية القرآنية الكريمة التى تقول: «واتلُ عليهم نبأ ابنَى آدمَ بالحق إذ قرّبا قرباناً فتُقبل من أحدهما ولم يُتقبل من الآخر»، وكان قربان هابيل خروفاً أو شاة أو شيئاً من هذا القبيل (العهدة فى ذلك على المفسرين).
فكرة الفداء أو «الفدو» -كما يردد اللسان المصرى- لها أبعادها الدينية، بل والشعبية أيضاً. فقد افتدى الخالق العظيم نبيه إسماعيل من الهلاك على يد أبيه إبراهيم بذبح عظيم: «وفديناه بذبح عظيم»، والمسيح يوصف بأنه «حمَل الله». وفى كل الأحوال تبقى فكرة التضحية مرتبطة بمفهوم الفداء (افتداء الإنسان) من أجل خلاصه من الذنوب والخطايا.
الحس الشعبى المصرى يستوعب هذه المسألة جيداً، وانطلاقاً من ذلك سعى إلى إضفاء نوع من التبجيل على الخروف، فأطلق عليه أسماء من يحب، أو أسماء دالة على الفرحة والابتهاج بالحياة (سعد أو سعيد)، كما اهتم بإبراز الوجه الدينى للشعيرة من خلال اللقب الذى منحه للأضحية.
إنها البصمة المصرية الصميمة التى تجدها حاضرة فى الطريقة الخاصة التى يحول بها هذا الشعب طقوس الدين إلى مباهج حياة.