بقلم - د. محمود خليل
يصف إدوارد لين في كتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم" المصريين قائلاً: "والمصريون عنيدون صعبو المراس".. العناد جزء من شخصية المصري وإن بدا منه عكس ذلك، وقصص العناد التي كان يتناقلها الناس فيما بينهم أيام الوالي محمد علي باشا تشهد على ذلك، من النماذج على ذلك هذه القصة التي تحكي موقفاً عجيباً عاشه أحد الفلاحين بسبب "اربعة شلن" كان مطلوباً منه دفعها.أحضر شيخ البلد الفلاح وأمره بدفع الأربعة شلن، فرد عليه بأنه لا يملك شيئاً، فأمر شيخ البلد بضربه، فاجتمع "الضرّيبة" على الرجل وأوسعوه ضرباً بالفاركيلة (الخرزانة) والكرابيج، أخذ المسكين يصرخ بأنه لا يملك من حطام الدنياً شيئاً، ولو كان معه لعتق نفسه به، وأخذ يسترحمهم، لكن الجلاد لا يملك أن يتوقف إلا بتوجيه من آمره، والآمر يستعذب ألم المسكين، لذا فقد تركهم يضربونه حتى تاه عن الدنيا، وفقد وعيه ولم يعد للضرب أثر عليه، هنالك تركوه.ساعد الأهالي الرجل على القيام، بعد أن أمر شيخ البلد بتركه، وبينما كان يسير مهزوزاً عاجزاً عن صلب طوله، إلا أن تسنده أيدي الناس، الذين أخذوا يرثون لحاله، وللعقاب الساحق الماحق الذي وقع عليه بسبب هذا المبلغ التافة "أربعة شلن"، بينما كان ذلك كذلك إذا بأحد جلاديه يشيعه وهو في طريقه إلى الرحيل بصفعة مدوية على قفاه كفته على وجهه، لتندفع من فمه قطعة معدنية عبارة عن ريال فضة، وهي قيمة المبلغ المطلوب، فقز إليها الفلاح الموجوع والتقطها، ثم أعادها إلى مكمنها، وحمد الله أن صافعه غرق في الضحك عليه، ولم ينتبه إلى ما حدث.عاد الفلاح سعيداً إلى قريته، يباهي نفسه بالاحتفاظ برياله الفضة، ويتباهى أمام أبناء جلدته بقدرته الخاصة على التحمل، وأنه تمكن من استيعاب عدد من الضربات والصفعات والجلدات عجز فلان أو علان من أهل القرية عن تحمل نصفه، واخذ يعدد لمن حوله ما تركه الضرب في جسده من ندوب ولسعات.إنه العناد وصعوبة المراس اللذين ميزا الإنسان المصري البسيط، مهما بدا متذللاً مستعطفاً أمام الجهات القادرة على عقابه، إنه يمكن أن يهاود أي سيد يوجه له أوامر معينة، لكنه في النهاية لا يفعل إلا ما في رأسه.يقول إدوارد لين: "نادراً ما نجد عاملاً مصرياً ينفذ أمراً يطلب منه، فهو يفضل اتباع رأيه الخاص بدلاً من رأي سيده، لذا لا ينهي قط عمله في الوفت المحدد".ليس هناك من تفسير لهذا العناد سوى القهر. فالمصري الذي يتحدث عنه "لين" كان يعاند سيده الذي يقهره. فالسيد أو ولي الأمر يكتفي بتوجيه الأوامر، دون أن يجهد نفسه في شرحها وتوضيح مغزاها والأسباب التي دعته إليها، وهو يفترض أن البني آدم الذي يقف أمامه، هو مجرد آلة لا تحتاج إلى أن تفهم لماذا تفعل هذا أو ذاك، بل عليها السمع والطاعة، وذلك ما يدفع المصري إلى العناد.القهر سر العناد.. كما يجعل من ضحاياه أساتذة في لعبة "التذلل والانكفاء".