بقلم - د. محمود خليل
يظل مقام الحبيبة السيدة نفيسة رضى الله عنها وأرضاها جزءاً من خريطة تفكير وإحساس كل من عاش فى حى الخليفة أو بالقرب منه، ما زالت تسكن خلاياه روائح «شارع الأشراف» الذى يمكنك الدخول فى رحابه من ناحية شارع الصليبة، أو من ناحية «طولون» عبر الشارع الذى يطل عليه مسجد أحمد بن طولون.
تتنقل بك الخطوات لتأخذك من مقام إلى مقام، حيث يثوى نفر من الأكارم من أهل بيت النبى صلى الله عليه وسلم.
تصافح عيناك مقام السيدة «سكينة بنت الحسين بن على بن أبى طالب»، رضى الله عنهم، وتتشبع أحاسيسك بالرضا عند مقام السيدة «رقية بنت على الرضا»، وتظل تسير فى الشارع حتى يصل بك إلى مقام السيدة نفيسة، تلك السيدة التى اكتست رحلة حياتها بالشجن والحنان المجللين بإيمان وتقوى كانا مضرب الأمثال.
يحدد ابن كثير فى كتابه «البداية والنهاية» النسب الشريف للسيدة الكريمة قائلاً: «هى نفيسة بنت أبى محمد الحسن بن زيد بن الحسن بن على بن أبى طالب القرشية الهاشمية.
كان أبوها نائباً للمنصور على المدينة النبوية خمس سنين، ثم غضب المنصور عليه فعزله عنها، وأخذ منه كل ما كان يملكه وما كان جمعه منها وأودعه السجن ببغداد، فلم يزل به حتى تُوفى المنصور، فأطلقه المهدى، وأطلق له كل ما كان أُخذ منه، وخرج معه إلى الحج فى سنة ثمان وستين ومائة، فلما كان بالحاجر توفى عن خمس وثمانين سنة».
فى ظل مناخ متقلب، تهبط أمواجه فتستقر فى حين، وتعلو وتشتد فى أحيان، ولدت السيدة نفيسة بالمدينة المنورة، التى كان والدها «الحسن بن زيد» نائباً للخليفة العباسى «المنصور» عليها، مكثت لسنوات تنعم بعيشة رخية وحياة مسترخية، بفضل منصب أبيها، لكن سرعان ما أدارت الأيام ظهرها للرجل ولابنته، فقد انقلب الخليفة على نائبه، ليس ذلك وفقط، بل وقرر سجنه ومصادرة أمواله أيضاً، فاضطربت حياة السيدة نفيسة رأساً على عقب.لم يوضح «ابن كثير» الأسباب التى أدت إلى هذا الانقلاب، لكنه أشار إلى أن الأمور اختلفت كثيراً بعد وفاة «المنصور» وتولى «المهدى»، فأطلق سراح «الحسن» وأعاد إليه أمواله المصادرة. فهل كانت هناك علاقة خفية بين الحسن والمهدى أدت إلى غضب المنصور عليه؟. لا يستطيع أحد أن يحدد.
بعد وفاة أبيها اختارت السيدة نفيسة أن تأوى إلى مصر، تماماً مثلما فعلت جدتها «زينب بنت على»، بعد استشهاد أخيها «الحسين» فى «كربلاء». وسبحان من جعل هذا البلد ملاذاً لأهل البيت بعد كل محنة مروا بها.
دخلت السيدة «نفيسة» الديار المصرية مع زوجها المؤتمن إسحاق بن جعفر فأقامت بها، وطاب لها العيش فيها، وأصبح منزلها قبلة لكل متلمس لروائح بيت النبوة الطاهر، ولكل طالب علم يريد أن ينهل من علوم ومعارف السيدة الجليلة، حتى لقبها المصريون بـ«نفيسة العلم».
تفقهت السيدة نفيسة فى علوم الدين، ولم يكن العلم لديها مجرد شروح أو متون تعلمتها أو عرفتها، أو تعلمها وتعرفها للناس، بل كان علماً من نوع خاص، إنه العلم الذى يصدقه العمل، وتقوى الله فى كل قول وفعل، وإحسان العبودية لله، والزهد فى متع الحياة.آوت السيدة الجليلة إلى ربها، وتقربت إليه بكل ما تملك من علم ومال.