بقلم - د. محمود خليل
واصل الشيخ محمد رفعت رحلته فى تلاوة القرآن الكريم، وربط المستمع المصرى بتعاليمه ومفاهيمه ومعانيه، وخلال شهر رمضان كان الشيخ يجد لنفسه مكاناً أساسياً داخل كل بيت من بيوت مصر، حتى أمسى الاستماع إلى تلاواته طقساً ثابتاً من طقوس رمضان، ويفسر الشيخ مصطفى إسماعيل فى أحد لقاءاته الإذاعية حالة الارتباط التى نشأت ما بين شهر رمضان والشيخ محمد رفعت فى الوجدان المصرى، بأن الشيخ كان يتلو القرآن -عبر أثير الإذاعة- بصورة شبه يومية أثناء الشهر الكريم، وقد التقت الروحانيات التى تجلل صوته الخاشع بروحانيات شهر رمضان ليمتزجا معاً، إلى حد أن أحدهما بات يستدعى الآخر، فسماع صوت الشيخ محمد رفعت يستدعى شهر رمضان، والدخول فى الشهر الكريم يستدعى الشيخ.
طبّقت شهرة الشيخ محمد رفعت الآفاق داخل مصر وخارجها، لكن ذلك لم يدفع «رجل القرآن» إلى تغيير نمط حياته الزاهدة، فظل يعيش فى منزله بحى «البغالة» بالسيدة زينب. وهو منزل يتكون من ثلاثة طوابق، عاش فيه مع زوجته وأولاده، وفتح بابه لكل من يريد من الفقراء والمساكين وعابرى السبيل، يفيض عليهم مما أعطاه الله، وفيه أيضاً كان يأتيه أحباؤه وعشاق صوته من كل اتجاه، كما تحكى حفيدته السيدة «هناء حسين رفعت»، فى أحد لقاءاتها الإذاعية. وحالياً أطلق على الشارع الذى احتضن منزل الشيخ اسم «شارع محمد رفعت»، تخليداً للذكرى العطرة لمروره على هذا المكان. كان الشيخ ميالاً بعد الانتهاء من أعماله إلى الجلوس فى غرفته الخاصة داخل منزله، ولم يكن لديه الشغف الذى ميز غيره من مشاهير المشايخ وكبار الشخصيات فى عصره بالانخراط فى التجمعات والمنتديات العامة والاحتفاليات وغير ذلك، إذ لم يكن من هواة العلاقات العامة، كما حكيت لك، لكنه كان يرحب بمن يأتيه أو يزوره.
الشيخ كان ميالاً إلى الخلوة، يعيش التصوف على الطريقة النقشبندية، بل كان أحد أقطاب هذه الطريقة، يقول «عبده فراج» زوج ابنته: «كانت هذه الجماعة تعتقد فى مبدأ (الخلة)، أى الصداقة مع الله، وعدم التكلف معه، لكثرة انشغالهم بالتعبد والتقرب إليه، وهم يعتقدون أنه ليست هناك حواجز بينهم وبين الله، فهم المقربون أحباب الله سبحانه وتعالى». وفكرة المناجاة من الأفكار الصوفية الأساسية حين يناجى الإنسان ربه، ويبث له تعبه وحزنه، وفى الفكرة ملمح من الأداء التعبدى لنبى الله يعقوب، حين كان يشكو لربه: «قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ»، فحين تبلغ الحاجة بالإنسان إلى خالقه مداها، يعلم ألا ملجأ من الله إلا إليه، والله تعالى يقول فى كتابه الكريم: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ».
يقول الدكتور «محمد درنيقة» فى كتابه «الطريقة النقشبندية وأعلامها» إن هذه الطريقة تنسب إلى الخليفة الراشدى الأول أبى بكر الصديق رضى الله عنه، وفى رأى النقشبندية أن الرسول صلى الله عليه وسلم لقّن أبا بكر الذكر الخفى، وذلك فى الغار، إبان هجرتهما إلى المدينة، واستقت الطريقة بعد ذلك تعاليمها من الصحابى سلمان الفارسى، وعدد من الصالحين، وآخرهم محمد بهاء الدين الأويسى البخارى المعروف بشاه نقشبند، وقد اكتسبت الطريقة اسمها من اسمه. وهى كلمة مكونة من جزءين؛ «نقش» وهو صورة الطابع إذا طبع به على شمع أو نحوه، و«بند» ومعناه بقاء من غير محو، فالكلمة تشير إلى تأثير ذكر الله فى القلب وانطباعه فيه.
والمتأمل لسيرة الشيخ محمد رفعت سيلاحظ أن القرآن الكريم كان مطبوعاً فى قلبه، ولم تكن سوره الكريمة مجرد مخزون فى عقله، يستعيده ويسترجعه ككلمات يتلوها، بل معانٍ انطبعت فى قلبه، يبثها جلية واضحة إلى مستمعيه. وتلاوة القرآن الكريم تمثل أعلى درجات الذكر، فالقرآن هو أصل الذكر «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ»، والذكر فى القرآن لا يعنى مجرد ترديد كلماته الجليلة، بل العمل بما تحمله من معانٍ: «إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ».. وتجربة الشيخ تقول إن القرآن الكريم لم يكن له شريك فى قلبه الطيب.