بقلم: د. محمود خليل
الدفع بالعنصر المصري إلى الصفوف الأمامية أتى بعد تفكير وتردد من جانب الوالي محمد علي. فقد كان ثقتهم أعلى في العنصرين التركي والجركسي، لكن ما إن فتح الباب للمصريين حتى تمكنوا من إبطال الفكرة الخاطئة الشائعة بعدم قدرتهم على التميز، أحياناً ما كان حكام الأسرة العلوية يفتحون الباب على اتساعه، كما حدث في عصري محمد علي وإسماعيل، وأحيانا ما كان يوارب، وأُغلق في أحوال، كما حدث في عصر عباس حلمي الأول، والوالي سعيد أيضا.
ورغم ما أفرزته التركيبة الاقتصادية القائمة على الإقطاع في العصر الملكي من إبراز وجه «التميز المالي»، والنظر إليه كأداة لمنح التميز التعليمي والعلمي والسياسي والموقعي داخل دولاب الدولة، ورغم أن التعليم في عصر إسماعيل بدأ في التحول من المجانية إلى التعليم بمصروفات، إلا أن المتميز من أفراد الطبقات المتوسطة والفقيرة كان يجد موضعا لقدمه داخل المدرسة والجامعة –بالمجان- إذا كان متفوقا، وكان يبتعث إلى الخارج على حساب الدولة، إذا كان يستحق مثل هذه الفرصة، ثم يتاح له بعد ذلك الوجود في الصفوف الأمامية داخل المجال الذي يعمل فيه.
قامات في مجال العلوم والسياسة والاقتصاد والاجتماع والأدب والفن والثقافة نبغت وتفوقت ونالت المكان والمكانة التي تليق بها في ذلك العصر، ولو أنك فتشت في أصولها فسوف تعرف أن أغلبهم لم يكونوا أبناء باشوات أو بكوات أو ينتمون إلى عائلات ثرية أو ذات نفوذ.
وقد بذل هؤلاء المتميزون ما يستطيعون من جهد ومحاولة لتطوير وتحديث وجه الحياة في مصر، بقدر ما أتاحت لهم الظروف السياسية والسلطوية السائدة خلال هذه الفترة.
وعلى هامش الاهتمام بالتعليم والمناداة بمجانيته بعد عصر إسماعيل، والاستجابة لهذه النداءات، نمت الطبقة الوسطى، ومنها خرج حزب المتوسطين من أفندية المدارس والموظفين وغيرهما، وقد تجلى تأثير الطبقة الوليدة في ثورة 1919 وما بعدها، وقد قامت بدورها –مع الطبقة الفقيرة- في رفد نادي المتميزين بالمزيد من الأعضاء الجدد، فتألقت في البلاد حالة حزبية وثقافية وصحفية وفنية وأدبية، تزاحم فيها العديد من الأسماء التي سطعت في حياة المصريين.
وعندما وصل قطار الحياة إلى حقبة الخمسينات من القرن الماضي كانت الطبقة الوسطى قد تهيأت لإحداث تحول هائل في حياة المصريين، حين قامت حركة 23 يوليو 1952، وتم التخلص من الملك والباشوات والإقطاع، والدخول في مواجهة مع ما كان يطلق عليه حينذاك مجتمع الـ5%.
وتمثل مجتمع الـ5% مثل من وجهة نظر النظام الجديد في القلة المتميزة بالمال والأملاك من الإقطاعيين وكبار ملاك الأرض وباشوات وبكوات العهد البائد، لكن طبقة الحكم الجديدة نست أن ضمن هذه القلة مجموعة من الكفاءات الوطنية المتميزة قي مجالات شتى، فدهستها وهي تسير على طريق التغيير، ورفعت شعارات: مجتمع العمال والفلاحين، وحق الفقراء في الحياة والتملك والمشاركة في الإدارة، ونادت بسلطة تقودها قوى الشعب العامل بفئاتها المختلفة.. والمشكلة أن أغلبهم كان من متوسطي المهارة والأداء.