يمسك «آدم الحفيد» برأسه ويقول: «دماغى يكاد ينفجر من الصداع.. ما بال الرأس لا يرسو على حال.. هل أواصل حياتى بالمسكنات».. ينظر إليه جده ويقول: «كل جرح لا بد له من لحظة سكن.. ومن لا يجد السكن فى الإيمان يتوه فى الدنيا.. يعيش حياته يبحث ويبحث ولا يصل إلى شىء».
كذلك عاش «مصطفى» يبحث عن عظام أبيه دون أن يصل إلى شىء.. يتحسس أخبار غريمه الأول الجركسى عز الدين الألفى دون أن يصل إلى شىء.. قال لنفسه: لا بد أن أفكر أولاً فى القريب من يدى.. التركى سليمان باشا رأس المؤامرة ضد أبى.. كل يوم كان يحصل فيه على معلومة عن «سليمان» يعود إلى أمه فرحاً ويبشرها باقتراب ساعة القصاص.. كانت أمه تقابل فرحته بصمت حزين.. حتى دخل عليها يوماً وقد انعقد لسانه بصمت الحزن.
- الشامية: ما لك يا مصطفى؟- مصطفى (بحزن): لا شىء يا أمى.. لا شىء.
- الشامية: عيناك دامعتان.. وأثقال الحزن تحنى ظهرك.. ماذا جرى؟
- مصطفى: ضاع من يدى يا أمى.. ضاع من يدى.- الشامية: من؟
- مصطفى: التركى.. سليمان باشا قاتل أبى.. (وهو يضرب بقبضة يده على رأسه): الذنب ذنبى.. أنا الذى تباطأت.
- الشامية (وقد أحست بالراحة): قل لى ماذا حدث بالضبط؟
- مصطفى: عزله الخديو الجديد «إسماعيل» من عمله وسافر إلى إسطنبول.. أصبحت أطارد شبحين، واحداً فى الشام والثانى فى عاصمة السلطنة.
- الشامية: إنها رسالة من السماء يا ولدى بأن تكف عما فى رأسك.. وتعيش حياتك كما يجب لشاب مثلك أن يفعل.- مصطفى: رأسى يكاد ينفجر.. لكننى لن أسكت على حق أبى.. سألتمس وسيلة أخرى للعقاب.
- الشامية: لا تعاند الأقدار يا مصطفى.
لم يرد عليها «مصطفى» وتركها وذهب للقاء شيخ العربان «أبى زيد الجعفرى».
وهو واحد من كبار زبائنه.. كان بحاجة إلى البارود والسلاح الذى يضعه فى يد جماعته وأتباعه لتأديب الأمراء والباشوات ورجال البوليس -
الذى أنشأه الخديو إسماعيل- ممن يهددون أوضاعهم أو يحولون بينهم وبين الأراضى والثروات التى يضعون أيديهم عليها.
رحب «مصطفى» بضيفه الذى سارع إلى القول:- الجعفرى: المطلوب هذه المرة كبير.- مصطفى: أنا تحت الأمر يا شيخ العرب.. (ثم بصوت منخفض): عملية جديدة.- الجعفرى (ضاحكاً): نعم.. مجموعة من العصاة نريد تأديبهم.
- مصطفى: تركى أم مملوكى؟
- الجعفرى: تركى.
- مصطفى (ضاحكاً): عفارم.. سأعطيك بضاعة وارد بلاد الإنجليز وبسعر يعجبك.
- الجعفرى: تكرم يا كبير التجار.. لكن أريد أن أسألك لماذا تفرح عندما نهاجم الترك أو المماليك؟.
- مصطفى: مكوى بنارهم.. ربنا يزيحهم عاجل غير آجل.
- الجعفرى: افتروا على ناس كثيرة.
- مصطفى: لهم يوم أسود من قلوبهم.
كانت أمتع صفقات «مصطفى» تلك التى يبرمها مع العربان.. وخصوصاً قبيلة الجعافرة التى لم يستطع أحد إخضاعهم، بمن فيهم الوالى الكبير محمد على.. خلافاً لغيرهم ممن تصالحوا مع السلطة، فانضم شبابهم إلى الجيش الذى نظمه الوالى.. أما كبارهم فشغلتهم النفحات التى ينفحهم بها الكبار من حين إلى آخر.
تنهد الجد آدم الكبير ثم قال: «ما أطول عذاب الإنسان حين يقسو قلبه!».