بقلم - د. محمود خليل
الأخلاق هى جوهر التماسك وأصل الانهيار داخل المجتمعات. فإذا حسنت عاش أفراد المجتمع مثل البنيان المرصوص، قادرين على الثبات مهما تراكمت عليهم عوامل الضعف والخور، وإذا ساءت اهتزت أركانهم مهما بدا عليهم من عناصر أو معطيات قوة.حين يواجه مجتمع متماسك أخلاقياً أزمة معينة فإنه ينتفع بها، ويجد أفراده فيها مناسبة ليمد كل فرد فيهم يده إلى الآخر، ويلتحم معه فى دفع الخطر عن المجموع، أما المجتمعات المهتزة أخلاقياً فإن أفرادها يجدون فى الأزمة فرصة يخرجون فيها مخالبهم لتنغرس فى لحم بعضهم البعض، وتمتد فيها أيديهم إلى «الهبش» من بعضهم البعض.ولو أنك حاولت التفتيش عن جوهر التماسك أو الاختلال فى الحائط الأخلاقى لأى مجتمع فسوف تجده محدداً فى ثنائية «الصدق/ الكذب».
فسيادة الصدق تعنى سيطرة الأخلاق وتماسك المجتمع، وانتشار الكذب يعنى انحسار المنسوب الأخلاقى واختلال أوضاعه.فى الحالات التى تلاحظ فيها اهتزاز حائط الأخلاق داخل أى مجتمع عليك أن تفتش عن الكذب، وستجد عنده تفسيراً لهذا الاهتزاز.. على سبيل المثال لو استرجعت الوصف الشهير الذى ظهر فى حياتنا 1967، فسوف تجد أن الأصل فيها كان «الكذب».فالكذب -قبل النكسة- زرع فى الناس الوهم، وعوّدهم على النظرة غير الواقعية إلى الأشخاص والأحداث من حولهم، ودفعهم إلى تبادل كؤوس الأمانى فيما بينهم، وكانت النتيجة أن أعطوا عقلهم «تعسيلة» نام فيها عن التحليل العاقل لما يتفاعل فى الواقع من حولهم، ثم استيقظ الجميع فجأة على النكسة، ووجدوا أنفسهم وجهاً لوجه مع المصيبة التى حلّت بهم، وأدركوا «الكذبة الكبرى» التى عاشوا عليها، فاختل توازنهم، وعلت أصواتهم بالسباب، وانطلقوا يخمشون أظافرهم فى رقاب بعضهم البعض، وباتوا يتعاركون لأتفه الأسباب.. وأوغلوا فى جلد ذواتهم ولعن أنفسهم.. واستباح القوى فيهم الضعيف.. وأخذ الضعيف يبحث عمن هو أضعف كى ينال منه.ظلت الأمور على هذا النحو حتى عشنا لحظة حقيقة واحدة على خط متصل من الكذب، وكان ذلك فى أكتوبر 1973، فامتدت الأيدى إلى بعضها البعض، وتشابكت من أجل الدفاع عن المجموع، وبات للكرامة قيمة وسعر لا يتردد أحد فى دفعه من أجل استردادها، حتى المجرمون المحترفون حينها عاشوا لحظة صدق مع النفس، فتوقفوا عن جرائمهم المعتادة من نصب وسطو وقتل وغير ذلك.إنه الفارق بين حالتين؛ حالة الكذب المتصل، وحالة الصدق اللحظى الذى يبرق كشعاع ضوء فى نهاية نفق مظلم ثم يختفى. واتصال حالة الكذب داخل أى مجتمع لا بد أن يحوله فى النهاية إلى صناعة ممأسسة، لها رعاتها ومخططوها ومحترفوها لتحقق ما تبتغيه من أهداف، والنتيجة المترتبة على انتشار «صناعة الكذب» تتمثل فى النحر المستمر لحائط الأخلاق داخل المجتمع، أما ثمن ذلك فيدفعه الجميع.. من شارك أو أحجم عن المشاركة فى حفلات «الكذب المصنوع» حين تبدأ المخالب فى الظهور، وتأتى لحظة مواجهة الوحش الذى تربى فى النفوس.