بقلم: د. محمود خليل
قصة اللغة العربية فى مصر من القصص شديدة الإثارة. فقد مرت بمراحل عديدة من التقلب والتغير، وتركت كل مرحلة من المراحل التى مر بها هذا البلد أثرها عليها، وامتد تاريخ تحولاتها وتغيراتها على الخط المستقيم الذى يصل ما بين نقطتين، الأولى هى الفتح العربى لمصر عام 21 هجرية (642 ميلادية)، والثانية هى الفتح التكنولوجى لمصر مع العقد الأخير من القرن العشرين، حين دخلها الموبايل والإنترنت.عند النقطة الأولى المتعلقة بالفتح العربى، يقرر الدكتور أحمد مختار عمر -رحمه الله- فى كتابه «تاريخ اللغة العربية فى مصر والمغرب الأدنى» أن مصر عرفت اللغة العربية قبل أن يفتحها عمرو بن العاص، وأكبر دليل على ذلك أن «عمرو» جاء مصر تاجراً قبل الفتح بسنين، وعقد العديد من الصفقات مع أقباطها، مما يعنى أحد أمرين: الأول أن بعضاً من أهل مصر كانوا يعرفون العربية، والثانى أن عمرو بن العاص كان يعرف اللغة الرسمية لمصر آنذاك وهى اللغة «القبطية». الأمران واردان بالطبع. ومعرفة بعض المصريين بالعربية ليس مستبعداُ بحال، بحكم احتكاكهم بأهل الجزيرة العربية، واحتكاك الأخيرين بهم. فمعرفة لغة الغير جزء من أدوات التبادلات التجارية فى كل زمان ومكان، لكن ذلك لا يدعونا إلى القول بأن مصر ككل عرفت اللغة العربية قبل الفتح العربى، بل الأدق أن بعض المصريين عرفوها حينذاك لأهداف عملية بحتة.التاريخ الحقيقى لمعرفة مصر اللغة العربية جاء مع دخول عمرو بن العاص إليها وسيطرته عليها، لكن عام الفتح (21 هجرية) لا يصلح بحال للحديث عن سيطرة «العربية» على الشارع المصرى. فقد رفض الشعب «العربية» فى البداية وظل يتحدث بلغته «القبطية» المعتادة، وظلت «القبطية» -كما يقرر الدكتور أحمد مختار عمر- حية يتكلمها عامة الشعب فى طول البلاد وعرضها، وظل على هذا النحو لمدة تقترب من ثلاثة قرون كاملة (أى حتى عام 321 هجرية- 942 ميلادية)، حين بدأت اللغة العربية فى التقدم والقبطية فى التراجع لتصبح الأولى اللغة الرسمية التى يتحدث بها الشعب ويكتب بها كتابه.تراجع «القبطية» لا يعنى بحال اختفاءها، بل يمكننا القول إنها بقيت من خلال العربية نفسها، عبر ما زودتها به من مفردات ما زالت تشكل جزءاً لا يتجزأ من قاموسنا اللغوى الحالى، فكلمات مثل محلسة وتهتة وشهّل وهلفوت وهجاص وفتك وغيرها قبطية الأصل. فاللغة العربية مثل غيرها من اللغات تأخذ وتعطى، وقد دخلت العديد من ألفاظها فى لغات أخرى، كما اكتسبت العديد من الألفاظ من اللغة القبطية وغيرها.المهم فى هذا السياق أن نستوعب أن المصريين ظلوا -بعد الفتح العربى- متمسكين بلغتهم القبطية الأصلية ثلاثة قرون متصلة، بعدها اختلف الأمر حين آمن بعضهم بالدين الجديد، أو اتجه إلى الإسلام رغبة فى رفع المغارم عن نفسه، أو طموحاً إلى الانضمام إلى طبقة الحكم، والتمتع بما يتمتعون به من امتيازات، خصوصاً أن الإسلام يجب ما قبله، ويساوى بين الجميع. ومع زحف الإسلام إلى جموع المصريين بدأت اللغة العربية تزحف إلى الشارع المصرى، وتصبح اللغة الرسمية التى يتحدث بها أهله.