بقلم - د. محمود خليل
القارئ لكتاب «عباس الثانى» الذى كتبه «اللورد كرومر» ونشره بعد عزل الخديو عام 1914 يدرك أنه من مواليد 4 يوليو 1874، وقد عرف هذه المعلومة، كما يحكى، من شيخ تركى خدم فى قصر الخديو «توفيق باشا» سنين طويلة.
عباس حلمى هو أكبر أنجال الخديو توفيق الذى وقع فى عصره الاحتلال الإنجليزى لمصر عام 1882، وجده هو الخديو إسماعيل نجل إبراهيم باشا نجل الوالى الكبير محمد على.
الأيام الأخيرة للخديو توفيق قضاها مريضاً بقصره فى حلوان -مكان الاستشفاء فى ذلك الزمان- يشرف على علاجه طبيب ألمانى، أعلن بعد يأسه من شفائه، أنه لم يتبقّ له سوى ساعات فوق ظهر الدنيا. توفى «توفيق»، وقرر اللورد كرومر بعد اجتماع عقده مع مصطفى باشا فهمى، رئيس النظار فى ذلك الوقت، نقل السلطة مباشرة إلى ولده الأكبر «عباس» وأبرق إلى الآستانة بالقرار حتى يصدر الفرمان اللازم للتولية.
واللافت أن عباس حلمى تولى السدة الخديوية بالحساب الهجرى وليس بالحساب الميلادى، وذلك لأول مرة فى تاريخ الأسرة العلوية، وهو ما تكرّر بعد ذلك مع الملك فاروق.
وقد نبّه أحد المشايخ اللورد كرومر للأمر حين وجده متحيراً فى عمر البرنس عباس، الذى لم يكن قد بلغ بعد الأعوام الـ18 اللازمة لتوليه السلطة، وقد أعجبت الفكرة «كرومر» وانطلق يحسب عمر «عباس» بالأشهر المحمدية كما يحكى، فوجد أنه بلغ الـ18 قبل أربعة أشهر من وفاة الخديو توفيق.
يتعجّب القارئ لكتاب «عباس الثانى» حين يقرأ أول انطباع سجّله اللورد كرومر عن الخديو الشاب، ويقول فيه: «إنى أرى الخديو الشاب مصرياً بحتاً».
ويشرح هذا الانطباع بعد ذلك، مشيراً إلى أن ميول الخديو المصرية كانت مبهمة وغامضة، لكنها لم تكن حتى ذلك الوقت ضد إنجلترا، بل كانت ضد السلطنة العثمانية، وأشار إلى أن الشاب أراد أن يخرج من دائرة التابع للمتبوع التى كان يشعر بها نحو الدولة العلية.
«مصرى بحت».. لا أظن أن اللورد كرومر أراد أن يشير بهذه العبارة إلى شىء أكثر من «التعصّب للذات»، بما يعنيه من رغبة فى الاستئثار أو الاستفراد بمصر.. فوصف «مصرى» هنا لا يعبّر عن مزاج أو ولع بشخصية، أو إحساس بالانتماء، قدر ما يعبّر عن رغبة خديو شاب فى أن يستقل بمصر لوحده، بعيداً عن الدولة العثمانية، وعن الدولة الإنجليزية.
لا نستطيع الزعم بأن البرنس الشاب كان يعرف الكثير عن مصر أو شعبها، قبل أن يتولى حكمها، فلم يكن يقيم فيها بشكل دائم، بل يتنقل بينها وبين الآستانة، وحين توفى أبوه «توفيق» كان فى فيينا، وعاد منها سريعاً، ليتولى الحكم.
لكن يبقى أن طموح الاستقلال بمصر الذى غازل عقل ووجدان الخديو الشاب كان مؤسساً على وعى من نوع ما بالمزاج المصرى، إنها مجموعة من المعادلات التى أدرك الخديو الشاب أنها تحكم المزاج الشعبى فاجتهد فى العمل عليها، فأحبه أفراد الشعب حباً كبيراً، وظلوا يتغنّون باسمه خلال حياته، وبعد عزله من الحكم، وحتى بعد رحيله.