بدأ «آدم الحفيد» يشعر بتحسّن فى أحواله.. السعال يتوقف.. نَفَسه هادئ.. أوجاع عظامه تخف.. لكن رغبته فى النوم العميق كانت مستمرة..
يرى جده يبتسم له كما تعود، فيقول له: أشعر أننى أحسن الآن.. لكن رغبتى فى النوم فظيعة..
فيرد الجد: النوم يا ولدى يشحن الروح ويغذيها ويقويها ويجعلها أكثر تحليقاً.جدك مصطفى كان يميل فى كبره إلى النوم، ولكن أباه «الترجمان» كان ما يفتأ يأتيه فى منامه فيوقظه من رقاده.
فى مرة جاءه فى المنام ولامه على التوقف عن البحث عن عظامه، فاشتكى له عجزه بعد سنين طويلة قضاها فى البحث، وأسفار كثيرة قطعها حتى يصل إلى حل للغز. فإذا بالترجمان يقول له: اسأل «آدم» فقد يدلك.
تعجب «آدم» لمّا سمع هذا الكلام من أبيه مصطفى.. حتى وقع ما هو أعجب.ذات يوم طلب «مصطفى» من ولده «آدم» أن يقرأ سورة «القيامة».. توضأ الابن وأمسك بكتاب الله وشرع فى التلاوة بصوت عذب يذوب معه القلب من فرط إحساسه بالمعانى.
بكى الأب كما تعود أن يبكى وابتهل إلى الله أن يمده بعون من عنده ويهديه إلى ضالته.. قام «مصطفى» بعدها وخرج من الحجرة وترك «آدم» فى صلاته.أخذت «مصطفى» سنة من نوم ثم استيقظ على صوت يناديه من داخل حجرة «آدم»: «مصطفى.. مصطفى»..
فزع الرجل من رقدته ومشى نحو حجرة «آدم».. رأى ولده نائماً، فى حين واصل الصوت النداء: «مصطفى.. مصطفى».. يا الله من أين يأتى هذا الصوت؟.. إننى أذكره جيداً.. يا رب السماوات.. إنه صوت أبى.. ولكن من أين يجىء؟.. ينظر فى كل اتجاه لا يرى أحداً.. ينظر إلى ولده «آدم» فيُدهش حين يجد شفتيه تتحركان بالنداء، ولكن بصوت أبيه «الترجمان».
يحاول أن يوقظ «آدم»، يهزه بعنف دون جدوى، يأمره الصوت بالكف عن هذا والاستماع إليه:
- الترجمان: آن الأوان أن تعرف.
- مصطفى: تعبت كثيراً يا أبى، حاولت الانتقام لك دون جدوى
.- الترجمان: المنتقم هو الله «أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ».
- مصطفى: وتعبت أكثر فى البحث عن المكان الذى ترقد فيه عظامك الطاهرة.
- الترجمان: وقد آن الأوان أن تعرف.
- مصطفى: اروِ ظمئى يا أبى.شرع «الترجمان» يحكى: أخذونى يا ولدى مع المملوكين، ووضعونا فى مركب وسار بنا إلى وسط النيل، ثم بدأوا فى إغراق المملوكين، كنت أنظر لما يحدث بلا تركيز.
كان فكرى منشغلاً بمحطات الرحلة منذ فقدت أبى فى الطاعون يوم كنا نعبر مصر فى طريقنا إلى المغرب، عملى مع الفرنسيين، ثم فى بلاط القلعة، مقتل ابنى مصطفى الأول.
وكنت أفكر فيك أيضاً يا مصطفى.
صور كثيرة اختلطت فى مخيلتى وأمام عينى حتى حان الميعاد المحتوم، وحملنى العسكر وألقوا بى فى قلب النيل، شعرت أننى أدخل فى ثقب أسود، كنت أتدفّق من خلاله فى سلاسة وهدوء، انتابنى إحساس عميق بالسلام النفسى، خرجت من الثقب فلقيت أبى وأمى فى انتظارى، وذهبنا إلى هناك.. إلى الحياة الحقيقية.. «وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِىَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».. «وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى».
طفت جثتى على صفحة النيل بالقرب من قرية «أبوغالب». التقطها عدد من الصيادين الذين يعملون هناك.. لمح أحدهم الخاتم الذى فى أصبعى، ووجد عليه نقش «محمد رسول الله» فأدرك أننى مسلم، فحملونى وأكرمونى بالصلاة علىّ، ثم دفنونى فى مقبرة، وحفر الصياد الطيب على شاهدها: «هنا ترقد عظام الغريب الذى آواه النيل».
اذهب يا ولدى إلى هناك واستخرج عظامى.. وستجد الخاتم الذى تعرفه، والذى ورثته عن أبى وعليه النقش الشريف.. انقل عظامى إلى جوار عظام أبى.. وخذ الخاتم وضعه فى أصبعك.. وأوصى ولدك الطيب بأن يضعه فى أصبعه بعد وفاتك، وأن يورثه من بعده لابنه.«وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ»..