بقلم - د. محمود خليل
منسوب الفساد داخل الجماعة أو المجموعة أو المجتمع يعد العامل الأخطر فى بناء منظومات الرداءة.
يظن البعض أن الاعتماد على قاعدة «أهل الثقة» وليس «أهل الكفاءة» يمثل مدخلاً أساسياً لتردى الأداء داخل العديد من المؤسسات، لكن المسألة فى تقديرى أعمق من ذلك، وهى ترتبط فى الأساس بالفساد، بل إن الاعتماد على أهل الثقة هو جزء من مفهوم الفساد، فساد التفكير والتدبير فى أقل تقدير.
الاختيار داخل مجتمعات الرداءة يتم على أساس الفساد، لأن الفساد -ببساطة- يعتبر حالة سائدة أو مسيطرة، وإلا بماذا نفسر سقوطها فى بئر الرداءة؟ يتصور الكثيرون أن مسألة «التأييد أو المعارضة» للإدارة داخل إحدى الشركات -على سبيل المثال- تعد الأساس فى الدفع بالعناصر العاملة بها إلى الأمام، وهو تصور لا أجده صحيحاً، لأن الأساس دائماً هو اختيار الأفسد الذى يليق بالواقع الردىء، ولو أنك جئت بالأصلح فسوف يكون عنصر قلق وإثارة داخل النظام الفاسد، لأنه لن يرضى بتمرير ما هو مخالف، وسيتحفظ على المجاملات، ويجتهد فى أن يعطى كل ذى حق حقه.
المعيار فى مسألتى الرداءة أو الجودة يتعلق فى الأساس بمنسوب الفساد، فارتفاعه رداءة، وهبوطه جودة، وحين يتغلغل الفساد داخل المؤسسات المختلفة، تصبح له الكلمة العليا فى المجتمع ككل، إذ يتحول الكثير من صغاره وكباره إلى حراس للفساد، ومدافعين عنه، نظراً لأن «أكل عيشهم» بات مرتبطاً به.
فى بيئات الرداءة تصبح السرعة فى المكسب شرطاً من شروط الحياة، والبطء، أو قل الجمود فى الإنتاج، سمة من سماتها. فالشاب يريد فى بضع سنين أن يشبع كل طموحاته فى «العيشة الهنية» التى تتكامل فيها أدوات الاستهلاك، وهو لا يستطيع أن يحقق ذلك إلا بالفساد، وإذا أوجعه ضميره أو سُئل: ولماذا لا تجتهد بما يرضى الله؟ سيجيبك: الفساد قدر الجميع «الكل كده» وأنا أتعامل مع المجتمع بقوانينه.
فكرة أن «الكل كده» تجد مبررها لدى الكثيرين بالإشارة إلى بعض من أثروا ثراء فاحشاً خلال فترة زمنية قصيرة، رغم أن أداءهم ينطق بالرداءة، فتجد الفرد يتعلل بهم ويقول لك: كيف حقق هؤلاء هذه الثروات الضخمة.. هل بالاجتهاد أم بالفساد؟.. ثم يردف: عوائد الاجتهاد لا تسمن ولا تغنى من جوع، وفى أغلب الأحوال لا تستطيع أن تمنحك «الستر»، بعد تعقّد متطلبات الحياة، ناهيك عن أنك تجتهد فى مجتمع لا يوجد فيه طلب على الجودة، أما الطريق الآخر فسهل ويسير وقطوفه دانية وسريعة.
مَن يفكرون بهذه الطريقة ينطبق عليهم قوله تعالى: «أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا»، فهذا الشغف بالمكسب الفاسد السريع يعكس حالة نسيان كامل للقيم والأخلاقيات، وما يتوجب أن يكون عليه أداء الفرد السوى، وما ينبغى عليه من النظر فى مسائل الحياة بعدسة مستقيمة، ترى الحسن حسناً والقبيح قبيحاً، ولا يعكس الآية بسبب أهوائه.
وليس ثمة أخطر على المجتمعات من أن تتراجع قيمة الاجتهاد ويتقدم الفساد والفاسدون، حين يقل الطلب على الجودة، وينتعش الطلب على الرداءة.