بقلم - د. محمود خليل
تقول واحدة من الحكم التي يؤمن بها المصريون: "دوام الحال من المحال".. هذه الحكمة تؤيدها قيم الدين وتجارب التاريخ ونظريات العلم.. فلا شىء يظل على حاله مهما طال عليه الأمد.في كل زمان ومكان تجد صراعاً بين من يريدون تثبيت الأوضاع وبين من يسعون إلى تغييرها.. الأطراف التي تريد التثبيت هي المستفيدة من الأوضاع القائمة، والأخرى التي تريد التغيير هي المضارة منها، وتبتغي رسم صورة جديدة لواقع أكثر ملائمة لها.
لو تأملنا في الطرف الحريص على ثبات الأوضاع في أي زمان أو مكان فسوف نجد أنه يتشكل في الأغلب من أفراد ومجموعات مصالح تحقق الكثير من المغانم والمكاسب بناء على مواقعها المتميزة على خريطة الواقع. ولا تستطيع الزعم بأن هؤلاء الأفراد أو المجموعات ولدوا وهم يجري في دمائهم شهوة الاستفادة أو الطمع في الحيازة والاستحواز.. قد يبدأون في مواقعهم بشراً طبيعيين عاديين لا بأس عليهم، لكن استمراريتهم في هذه المواقع أكثر من اللازم يؤدي بهم إلى التغير.
طول البقاء في الموقع يحول الفرد أو المجموعة إلى مركز أو بؤرة قوة، فالإنسان لا يلدغ إلا إذا اطمأن، وأكثر ما يمنحه الطمأنينة هو إحساسه بأنه باق في مكانه، في هذه اللحظة يبدأ في القرص والشفط والبلع، ويزداد حرصه على تثبيت ما هو قائم، لأن أي تغيير لن يكون في صالحه.
يقول الله تعالى: "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون".. مرور الوقت مع ثبات الأوضاع، وجريان الزمن مع استمرار الحال، يؤديان بالأطراف المسيطرة على الواقع إلى الاطمئنان، والنتيجة التي تترتب على ذلك هي القسوة، والقسوة هي وقود اللدغ والشفط والبلع وكل ما يؤدي إلى استلاب الواقع.
التجربة التاريخية أيضاً تدلل على ذلك، ولو أنك راجعت تجربة المماليك فسوف تجد أن الدولة الجركسية زالت حين طال الأمد على سلاطينها بدءاً من السلطان برقوق وانتهاءاً بالسلطان طومان باي.
في عصر الأخير كان الأمراء المماليك قد تحولوا إلى مجموعة من مراكز القوى، كل همهم اكتناز الكنوز، وابتلاع الثروات، ونهب الأهالي، والتحكم في الواقع، في المقابل تضعضعت قدراتهم وما اشتهروا به من مهارات قتالية، لما استناموا إلى نعم الدنيا ونعيمها، وتمرغوا في أطايبها ظهراً لبطن، وكانت النتيجة أن انكسروا أمام الترك في الشام في موقعة "الريدانية"، ثم في مصر في موقعة "مرج دابق".
أما على مستوى العلم، فيقول أحد قوانين "الحركة": كل شىء يبقى على حاله من حركة أو ثبات ما لم يؤثر عليه مؤثر خارجي.. فشرط التغيير يرتبط دائماً بوجود مؤثر خارجي يضغط على الواقع حتى يقلقله. في هذه اللحظة فقط يبدأ الواقع في الاهتزاز، وترتج الأرض أسفل أقدام المسيطرين.