بقلم - د. محمود خليل
دخل معاوية بن أبى سفيان الإسلام، وسرعان ما تبوأ موقعه ضمن «كُتاب الوحى»، هيأه لهذا الموقع إجادته القراءة والكتابة، مثل العديد من الشخصيات التى تولت مهمة الكتابة للنبى صلى الله عليه وسلم.
ومن الأهمية بمكان أن نعلم أن النبى لم يبادر إلى اختيار معاوية ضمن كُتاب الوحى، بل أتت المسألة فى سياق طلب قدمه أبوسفيان بن حرب، كما يحكى «ابن كثير»، حين ترجَّى النبى أن يجعل معاوية كاتباً بين يديه، وهو ما استجاب له صلى الله عليه وسلم.
لقد عرف أبوسفيان كيف يختار لولده حديث العهد بالإسلام موقعاً قريباً من النبى، مستغلاً تلك المهارة التى كانت متاحة له ضمن عدد محدود من العرب، وهى مهارة القراءة والكتابة.
وربما يكون النبى قد قبل هذا الأمر بسهولة تأليفاً لقلب أبى سفيان، يدلل على ذلك أن «معاوية» لم يكن كاتباً أساسياً لدى النبى، بل يكتب إذا تغيّب أحد من الأساسيين. يذكر «ابن كثير» نقلاً عن «ابن إسحاق» قوله: «وكتب لرسول الله زيد بن ثابت، فإذا لم يحضر فعبدالله ابن الأرقم، فإذا لم يحضر فمن حضر من الناس، وقد كتب عمر، وعلى، وزيد، والمغيرة بن شعبة، ومعاوية، وخالد بن سعيد ابن العاص، وغيرهم ممن سُمى من العرب».
كان «معاوية» إذن واحداً من الناس الذين يكتبون للنبى ولم يكن له موقع خاص على هذا المستوى، وبإمكانك أن تراجع مسألة كُتاب الوحى بالتفصيل فى الباب الذى خصصه «ابن كثير» فى «البداية والنهاية» بهذا العنوان: «كُتاب الوحى»، وستجد فيه سرداً للقائمة الطويلة التى شملت أسماءهم.ظل «معاوية» يتحسس طريقه ويؤسس لموقعه داخل صفوف الكبار من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم طيلة السنوات الثلاث التى تلت إسلامه، بعد فتح مكة وحتى وفاة النبى عام 11 هجرية، وحاول أن يتقدم خطوة إلى الأمام فى عهد أبى بكر الصديق، لكنه لم ينجح فى ذلك، بل أفلح أخوه الأكبر يزيد بن أبى سفيان، حين اختاره أبوبكر الصديق قائداً لجيش الحملة على الشام بقية حياته، وبعد وفاته فى عهد عمر بن الخطاب اتخذ الخليفة قراراً بتولية شقيقه معاوية مكانه على عدة أنحاء من الشام، وكان الأخير يعمل برئاسة أخيه قبل موته ويحمل اللواء بين يديه، كما يقول عباس العقاد فى كتابه عن «معاوية».
وفى عهد عثمان بن عفان باتت الشام بجميع أنحائها تحت ولاية معاوية، ولما اغتيل عثمان كان معاوية قد قضى نحو 20 عاماً كاملة فى حكم هذه الأرض، فعرف أهلها وألمّ بتلافيفها، وتحوّل إلى ما يشبه مركز القوة فيها، وظهرت أجيال جديدة فوق ترابها لا تعرف عن الإسلام أو المسلمين إلا ما يمثله معاوية.
وقد ساعد هذا الأمر الرجل كثيراً حين قرر قفزته الكبرى نحو الجلوس على مقعد خليفة المسلمين، عقب الفتنة التى اندلعت فى عصر عثمان، وما انتهت إليه من اغتيال الخليفة وتولية على بن أبى طالب مكانه.تداعيات الأحداث بعد اغتيال عمر بن الخطاب كانت تنذر بحقيقة أساسية جوهرها تراجُع أدوار المدافعين عن قيم الدين مقابل تقدم رجال السياسة والمال، المدافعون عن قيم الدين مثلوا حزباً قاده على بن أبى طالب وأولاده ومن تحلَّق حولهم من صحابة النبى صلى الله عليه وسلم، أما رجال السياسة والمال فتمثلوا فى الأمويين الذين شكلوا حزباً حاكماً تحلَّق حول عثمان بن عفان (الأموى).
ومكنت الفترة الطويلة لحكم عثمان كل عناصر هذا الحزب من التجذر فى مواقعهم، وكان من الطبيعى أن يمكّنهم ذلك من الانتصار فى أى مواجهة من المتوقع أن يخوضها ضد الحزب المدافع عن قيم الدين.
وكما كانت السياسة والمال هما المحركين الأساسيين لبنى أمية ضد رسالة الإسلام حين بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، كانا أيضاً المحركين الجوهريين للانقضاض على الحكم بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من وفاة النبى.